إحدى الأمهات ُتعلم ابنتها في مدرسة حكومية، وابنها في أهلية، لأن إمكاناتها المادية لا تسمح بدفع رسوم لطفلين، فاختارت ما رأته الأفضل للولد، وقالت بكل صراحة: «في النهاية هي بنت»، مؤكدة أن الولد أولى لأنه سيكون مسؤولاً عن أسرة. أمهات أخريات اخترن مدراس أهلية أجنبية متميزة أكاديمياً، كما يعتقدن، لأولادهن، ومدارس أخرى تجمع عدداً كبيراً من «بنات البلد»، على حد تعبيرهن. وحين كانت تشتكي إحداهن من تضارب مواعيد العطل بين المدارس، سألتها إن كانت تعتقد بأن مدرسة الولد أفضل، فلماذا لا تسجل الفتاة في المدرسة نفسها؟ قالت: إنها «بنت» وحتماً ستتزوج، ومن المهم أن تكون لديها صديقات سعوديات حتى لا تكون منعزلة اجتماعياً في المستقبل! أعادني هذا الحديث إلى أيام مدرستي الثانوية حين حاولت معلمتي جاهدة أن تثنيني عن قرار السفر لإتمام الدراسة الجامعية خارج السعودية، مؤكدة أنه سيقلل فرصي في اللحاق بقطار الزواج، وسأنضم إلى قائمة ما يسمين «بالعوانس» لأن التعليم في الخارج يؤثر على سمعة الفتاة، فلا يتقدم لها الخُطَّاب، ولابد أن أتذكر دائماً أنني «بنت». السنوات تمر والعبارات تتكرر، ليس فقط من قبل متشددين من أصحاب الفكر الذكوري الذين لا يرون أي دور للمرأة بعيداً عن الزواج والإنجاب، بل أيضاً من نساء وأمهات متعلمات حصلن على فرص في التعليم والعمل. فرغم ارتفاع معدلات نسب تعليم البنات سواء في الداخل أم من خلال الابتعاث للخارج، ومشاركة المرأة في سوق العمل في مجالات جديدة، ما زالت بعض النساء يعملن على تكريس هذه الفكرة. فإما أن يكون البيت مكان الفتاة، وإما أن تختار تخصصاً دراسياً يناسب «طبيعتها كأنثى»، أو تختار عملاً بعد التخرج لا يتعارض مع دورها كزوجة وأم. كما عليها أن لا تزاحم الشباب في رزقهم لأنهم أولى بالتوظيف. فالهدف الأول والأخير لأي فتاة مهما تعلمت، «البيت والعيال»! وبالتالي كل قراراتها المصيرية، وخططها المستقبلية لا بد أن تتمحور حول ذلك. أنا هنا لا أقلل من دور الزوجة والأم، فأنا واحدة منهن، بل أعتبر أن الأولوية للأبناء طالما اُتخذ قرار الإنجاب، وعلى الأم موازنة أمورها بما تتطلبه مصلحتهم، ولكن أن نكرس ثقافة تحصر الفتاة في دور واحد فقط، ونربيها على أنه غايتها، وبالتالي لا يتم الاستثمار في تعليمها كالذكر لأنها «بنت»، فكرة فيها تكريس للجهل، وتهميش لأدوار أخرى يمكن أن تقوم بها. فماذا لو لم يكتب لهذه «البنت» الزواج مع تزايد عدد غير المتزوجات سواء باختيارهن أم لأسباب اجتماعية واقتصادية أخرى؟ فكيف سأقنعها أن هذا الأمر مقبول، وأطلب منها أن لا تشعر بالنقص بعد أن هيأتها لأن تكون زوجة وأماً فقط؟ ألا يمكن أن تسهم هذه «البنت» في تنمية مجتمعها بشكل آخر؟ وتشعر بقيمتها في دور آخر؟ فليس كل النساء متزوجات، والنماذج كثيرة فهناك المطلقات والمعلقات والأرامل وغيرهن. لأنها «بنت» لا يعني أن تحصر في إطار محدد كزوجة وأم فقط، بل تكون جاهزة لكل الاحتمالات. لأنها «بنت» لا بد أن تكون قوية ومتفتحة ومستقلة وقادرة على النجاح في حياتها بأي شكل وتحت أي ظرف. لأنها «بنت» لا بد أن تكون ذكية، وواثقة من نفسها، محققة اكتفاءها الذاتي، ومستعدة لبدء مشوارها كلما تعثرت، وأن تكون لديها المقدرة على الحلم إن حاصرها اليأس، والقدرة على الوقوف إن سقطت أو فشلت. لأنها «بنت» يجب أن لا تكون عالة وعرضة للعنف والابتزاز لقلة حيلتها وضعفها. لأنها «بنت» لابد أن نستثمر في عقلها، وشخصيتها، فلا ينحصر طموحها في دور واحد، إن لم يتحقق هُدمت معه كل الأحلام والآمال. [email protected] DALIAGAZZAZ@