كان هناك حزن وغضب لدى عديد من السياسيين والمعلقين العرب في سياق ردود الفعل على انعقاد المؤتمر العام السادس لحركة فتح. ويكاد يكون الغيظ هو الدافع الرئيسي وراء كمّ الحجج التي سيقت للنيل من المؤتمر، والتقليل من الحدث. حتى خال البعض أن استحالة انعقاد المؤتمر على مدى عشرين عاماً، كانت أمراً وطنياً، في حين أن شُبهة «المؤامرة» تلتصق بتجمع الفتحاويين لتداول شؤون وشجون حركتهم. لم يستشر المؤسسون لحركة فتح الشعب الفلسطيني أو الشعب العربي (ولا الحكام العرب بالطبع) حين قرروا إطلاق «الرصاصة الأولى» عام 1965. كان لا بد من جماعة أن تطلق خياراتها، والمخاطرة ربما بالإبحار عكس التيار، دون أن يضمن ذلك ديمومة ونجاح. لم تكن حركة فتح يساراً، على ما كان شائعاً في تلك الحقبة، ولم تكن تياراً دينياً، بالمعنى الذي كان يبشر به الإخوان المسلمون (مع العلم أن عدداً من المؤسسين كان متأئراً بالإخوان المسلمين)، ولم تكن تياراً قومياً عربياً، على ما شاع في العهد الناصري كما في إطلالات البعث على العمل السياسي العربي. الحكاية كانت أبسط بكثير، ترتكز على أن على الفلسطينيين، بصفتهم كذلك، أن يأخذوا زمام المبادرة، من أجل تحرير فلسطين. تستند إلى الرافعة الفلسطينية أساساً، ولا بأس أن تلتصق بها ديناميات عربية أو دولية. ومن ضمن تلك البساطة (إذا ما قيست بالأيديولوجيات المعقدة الطموحة التي كانت في الأسواق)، تعملق العامل الفلسطيني، وأضحى دون جدل «الرقم الصعب»، على ما كان يردد الزعيم الفلسطيني الراحل والقتحاوي الأول ياسر عرفات. تعايشت فتح مع العهد الناصري، المحتكر للعمل العربي القومي الوطني، فتآلفت، وتناقضت، وتجاوزت، وتفوقت، واستمرت بعد غياب عبد الناصر. ثم تناكفت فتح مع النظام العربي الرسمي، بكل أطيافه، فناورت، وتحالفت، وتحاربت، وتناقضت، لكنها حافظت، رغم كل ذلك، على كيان نجح، في ما يشبه الإعجاز، بالحفاظ على مستوى متقدم من الاستقلالية. وعلى كثرة وتعدد الفصائل الفلسطينية، بقيت القاطرة الفتحاوية هي أساس العمل الفلسطيني، في الأردن ولبنان وتونس ورام الله، قبل أن يتقدم الإسلام السياسي، متمثلاً بحركة حماس وحلفائها للمنافسة على الدور والوظيفة، وصولاً إلى أخطر انقسام تشهده الساحة الفلسطينية في تاريخها. لكن البديل الحمساوي أثبت حاجة فلسطين إلى فتح. فبيت العمل الفلسطيني الوحدوي الجامع هو البيت الفتحاوي بلا منازع. وضمور فتح عنى، كما أضحى ثابتاً، ضمور الحركة الوطنية الفلسطينية برمتها. ففيما ثبت عدم قدرة حماس على تمثيل الشعب الفلسطيني بيساره ويمينه، بعلمانييه ومتدنييه، بمسلميه ومسحييه..إلخ، فقد باتت استعادة حركة فتح زمام الأمور أمراً حيوياً مطلوباً، ربما من الحمساويين أنفسهم. نعم انعقد مؤتمر فتح من أجل ذلك، أو على الأقل من أجل المحاولة. انعقد المؤتمر في بيت لحم، على أرض فلسطين، وهو حدث لم يكن ليحلم به فتحاويو المؤتمر الخامس عام 1989 في تونس. انعقد بعد عشرين عاماً، بعد «أوسلو»، بعد غياب القائد التاريخي، بعد هزيمة التشريعي وبعد أحداث غزة. وكثيراً ما قيل حول وظيفة حركة فتح حالياً، بعد أن فقدت دورها كعصب الكفاح المسلح وفقدت مكانتها كحزب السلطة. فجاء المؤتمر، مناسبة للقاء، بين داخل وخارج، بين ضفاوي وغزاوي (الذين استطاعوا الحضور على الأقل)، بين عرفاتي وعباسي، بين من تناكفوا وتباينوا على مدى عشرين عاماً. أراد البعض (من فتحاويين وجهات إقليمية) عقد المؤتمر خارج فلسطين. والحجة أن مؤتمرات حركات التحرر لا تعقد تحت الاحتلال. وهو كلام حق يتجاهل أن الشعب الفلسطيني يعيش على أرض فلسطين تحت الاحتلال. وأن الفصائل الفلسطينية جميعها تناضل في الداخل تحت ظروف الاحتلال (حماس مثالاً). وأن دخول الفلسطينيين وخروجهم يخضع لشروط أمن المحتل، دون أن يمنع ذلك (قبل وبعد «أوسلو») النضال من أن يتوقف، ودون أن يمنع إنشاء السلطة المنبثقة عن منظمة التحرير الفلسطينية. فالأمر إذن ليس جديداً، وجرى التعايش معه منذ «أوسلو». أما القول أن عقد المؤتمر تحت الاحتلال يفقد المؤتمر استقلاليته فهو أمر مشكوك به نظرياً، وثبت ذلك عملياً من خلال نقاشات المؤتمر، علماً أن عقد المؤتمر في الخارج، أي في عاصمة عربية، لا يمثل بالتأكيد ضماناً لاستقلاليه المؤتمر والمؤتمرين. لم يأت المؤتمر على مقاس الرئيس كما توقع كثيرون. ليس لأن الرئيس تعفف عن ذلك ربما، بل لأن دينامية المؤتمر فرضت نفسها، بحيث بات الارتجال سيد الموقف. وعمل لقاء البشر على استحداث تشكلات، واستنباط تيارات، فاجأت «المخططين» وأربكت عمل من أراد أن يكون «مهندساً» للمؤتمر. قدمت العصبية الفتحاوية محمود عباس رئيساً للحركة بالتزكية (أو المبايعة)، بحيث أن اللحظة الفتحاوية منحت أبو مازن امتياز السماح (الذي لا يعبر بالضرورة عن الرضى)، وضرورات المبايعة. ولا شك في أن إقبال المئات على الترشح على تبوء محافل القيادة (اللجنة المركزية والمجلس الثوري)، يعكس إيماناً بالفتحاوية وبأهمية الانخراط في قيادتها. بحيث ثبت أن البيت الفتحاوي ما زال بيت الفتحاويين الأوحد، حتى بعد غياب ياسر عرفات (وربما العرفاتية أيضاً). ولا شك في أن ما خرجت به الانتخابات من أسماء قيادية جديدة في «المركزية» و «الثوري»، يعيد تسليط الضوء على الظاهرة الفتحاوية اللافتة، والتي تظلل الجميع، ولا تستثني أحداً، وهي سمة لطالما صاحبت المشوار الفتحاوي على مدى العقود الماضية (فتح استعادت إلى صفوفها جُل من تواروا في حركتي أبو نضال وأبو موسى الانشقاقيتين). مجموعة من التفاصيل الإنسانية بالإمكان رصدها في المؤتمر، لكن المؤتمر بالمحصلة هو حدث سياسي، له عوامله البيتية لا شك، غير أنه مرتبط براهن إقليمي ودولي. ولا ريب أن الفتحاويين، فهموا الحاجة، في هذه اللحظة، للمؤتمر. فجو عربي ودولي يضغط في هذا الاتجاه، ربما تحرياً لتوازن فلسطيني مطلوب إزاء حماس، وربما أيضاً تحرياً لقيادة فلسطينية قوية محددة بإمكانها التعامل مع استحقاقات قادمة في مسألة الصراع الشرق أوسطي. على أن الحاجة العربية – الدولية (لا سيما الأميركية) لا يعني بالضرورة الخروج بفتح على مقاس المزاجين العربي والدولي، بل إخراج فتح من تخلفها عن فهم شروط العصر، والدفع بالحركة إلى العودة إلى تصدر الحركة الفلسطينية بسياقيها المفاوض والمقاوم، على ما جاء جلياً في البرنامج السياسي (الذي لم يخل من تعابير وجمل أيديولوجية تنتمي إلى عهود غابرة ومن لغة خشبية تحلو لهواة النوع). ربما لفهم صورة فتح الجديدة، واستشراف أدائها المقبل، وقراءة دينامية المؤتمر، من المفيد تأمل وجوه القيادة الجديدة. فالمشهد اعتراف بالتاريخ والتاريخي، وتمثيل للتيارات والكتل والجهات، واقتراب من جيل شاب طبع العمل الفلسطيني الحديث، وتثبيت خيارات المقاومة، كما تدعيم خيارات التفاوض... وربما سيأتي من ينتقد ويعتبر أنها خلطة لا تتسق.. ربما هي هكذا دائماً حركة فتح. وهنا سرّ الخلطة. * صحافي وكاتب سياسي لبناني.