يعتبر مازن حيدر، المهندس المعماري المختص بالترميم والأستاذ المحاضر في الجامعة الأميركية في بيروت والجامعة اللبنانية - الأميركية، أن «بيروت لم يُعَد إعمارها بما تتطلبه الثقافة المدينية، بعد الحرب، والهدم اليوم هو استمرار للحرب وتقسيم البلد والانعزال». وحيدر، العضو في المركز العربي للعمارة الذي يوثّق للعمارة الحديثة منذ عشرينات القرن الماضي إلى ستيناته، يشرح أن بناء الأوطان يحتاج إلى ثقافة عامة تدافع عن حضارتها، لكنْ «هناك لغط في لبنان بأن كل المباني القديمة سيّئة». والخطورة في أن هذا المبدأ بات ثقافة سائدة ليس عند المضاربين العقاريين وأصحاب شركات البناء الكبيرة فحسب، بل عند غالبية الناس. ويُرجع حيدر هذا اللغط إلى أن «ثقافة الصيانة والترميم، مفقودة في لبنان». وأشار الى أن المباني التي بنيت بعد عام 1991 في بيروت، شاهقة غريبة لا علاقة لها بالمحيط. ويؤكد: «هناك حرب استثمار ضارية في بيروت، إذ لم تعد هناك مساحات فارغة. فيلجأ تجار العقارات إلى المباني القديمة لهدمها وبناء أبراج مكانها». ويرى أن «المشكلة الأساسية تكمن في أن وزارة الثقافة والبلدية تصنّفان المبنى من دون النظر إلى محيطه وأهميته المعنوية، والمثال على ذلك شارع الحمراء الغني بالمباني التراثية والحديثة، والتي تُهدم بإذن رسمي أحياناً». وعن عدد المباني التي هدمت في السنوات الأخيرة يقول حيدر، ومدير جمعية «أنقذوا تراث بيروت» جورجيو طراف، إن الإحصاءات ليست دقيقة في هذا المجال، إذ إن هناك مبانيَ تُهدم سراً أو ليلاً، وهناك مبانيَ يحتال أصحابها على بلدية بيروت ومحافظتها ويهدمونها، كما أن هناك مبانيَ غير مصنّفة على رغم أنها تراثية. لذلك، قد يهدم مبنى تراثي ويسجل على أنه عادي. ومن المعروف أن هناك أحياء فقدت غالبية مبانيها التراثية والحديثة مثل البسطة، الناصرة – شارع مونو، شارع رستم باشا في عين المريسة. ومن أهم هذه المعالم الحديثة سينما ريفولي، وسينما أمبير، في وسط العاصمة، إضافة إلى فندق كارلتون. كما طاول الهدم معظم ما بدأه المهندس جوزيف فيليب كرم في الروشة. وهناك أحياء تقع في حزام وسط بيروت، مثل زقاق البلاط، الباشورة، القنطاري، الظريف، عين المريسة وميناء الحصن، وتضم أبنية تراثية من الحقبة العثمانية والانتداب الفرنسي، ومباني حديثة ذات قيمة فنية وجمالية عالية. أما المباني الحديثة (بين 1920 وأواسط الستينات)، فتنتشر غالبيتها في شوارع الحمراء وليون وبلِس، وثالوث رأس بيروت وبدارو وشارع عمر بن الخطاب. وهناك أحياء مثل الجميزة، الذي تعود مبانيه إلى بدايات القرن التاسع عشر وبعضها من ثلاثينات القرن العشرين، وأخرى حديثة مثل مبنى شركة كهرباء لبنان. وفي منطقة الأشرفية، عدد لا يحصى من المباني الحديثة، في أحياء اليسوعية وفرن الحايك، وفي شارع لبنان. يشير حيدر إلى أن أهم عناصر تصنيف المباني التراثية كي لا تُهدم: القيمة التاريخية أو عُمْر المبنى، القيمة الفنية المعمارية أو نمط البناء (وإن كان المبنى حديثاً يمكن تصنيفه تراثياً)، الأبنية النادرة والرمزية التي تمثّل جزءاً من الذاكرة الجماعية مثل بيت فيروز، وقيمة العلاقة مع المحيط (أي عندما يتمتّع مبنى ما بقيمة تتعلق بالحي التراثي كلّه وليس بهذا المبنى بالذات مثل شارع غورو). كما تؤخد مواد البناء في الاعتبار، وتضاف إليها التقنيات مثل الزخرفة. وما العمل إذا كان المِلك خاصاً؟ يستشهد حيدر بفيكتور هوغو الذي يقول: «المبنى ملك خاص، لكن جماليته ملك عام». التراث لا يعني ثورة على الاستثمار يقترح مازن حيدر أن تُحفّز المؤسسات الحكومية أصحاب المباني القديمة وتشجّعهم على الترميم بطرق مرنة، مثل إعفائهم من الضرائب، أو زيادة طبقات، شرط أن تنسجم مع المحيط المعماري العام. كما ينصح البلدية بتبني هذه المباني أو بشرائها لتستثمرها سفارات أو مصارف أو مؤسسات ثقافية. وللنهوض بخطة وطنية للمحافظة على ما تبقى من تراث بيروت وعمارتها، لا بدّ من تضافر الجهود بين وزارة الثقافة والبلدية (غالباً ما تتضارب مصالحهما كما حصل مع المبنى الذي سكنه أمين معلوف) والمجلس الأعلى للتنظيم المُدُني والمواطن وكليات العمارة والمدارس ووسائل الإعلام، وفق حيدر. ويشير إلى أن أكثر اللبنانيين لا يعرفون أسماء الشوارع المحيطة بهم ولا يكترثون بالرؤية المعمارية والمحافظة عليها. ويغري هؤلاء بعض الأموال التي يدفعها لهم مستثمرون يستغلون حاجتهم المادية، ليبنوا صناديق إسمنتية في أبراج «شاذة» لا تنسجم مع هوية بيروت، وتحجب الشمس والبحر عن أهالي الحي الأصليين ومبانيهم «القزمة». ويقول جورجيو طراف إن من يطالبون بإنقاذ تراث بيروت الأثري والحديث، لا يرفضون بالضرورة بناء الأبراج والبنايات الجديدة ولا هم ضد الاستثمار، بل يطالبون بالحفاظ على روح المدينة وهويتها. وكتب نبيل بيهم، أن إعادة إعمار لبنان بعد الحرب التي تأثرت تأثراً لا مبرر له بسنغافورة وهونغ كونغ ومدن الخليج، هي أقرب الى بلدان أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. والمطالبون بالمحافظة على ما تبقى من عمارة بيروت الجميلة، إنما يتمنون التمثّل بالنموذج البريطاني الذي وضع نصب عينيه حين صدرت أول مجموعة من القوانين لإعادة الإعمار في عام 1943، حماية مصالح المواطنين وتأمين حاجاتهم الاجتماعية وحماية اللحمة السياسية وإعادة إحياء الطبقة الوسطى، وإطلاق الأشكال الديموقراطية للعلاقات، والحرص على الأحزمة الخضراء حول المدن. في حين أن إعادة إعمار بيروت لم تلحظ المساحات الخضراء والعامة التي كانت تميز طراز بيروت المعماري العثماني والفرنسي وتُظهر دورها الريادي في التلاقي والحوار. فالتراث ليس حجراً، بل هو فكر ودم مجبولان بعرق عمال وموظفين تعبوا هنا وعاشوا هنا... وماتوا هنا تاركين لأجيالهم تحت هذه الأسقف حكايات توثّق لها هذه العمارة الفنية التي لا تنفصل عن حضارة المدينة.