23 شهراً لم تختلف خلالها نشرة أخبار التلفزيون السوري، مضموناً وشكلاً وحتى أداءً. فمنذ انطلاق الثورة السورية، يعتمد التلفزيون السوري في أخباره على اللقطات الأرشيفية والمواد المكتوبة، لتغيب الصور الحية والتقارير الميدانية، طبعاً إلا ما ندر - في بعض التقارير المفبركة - كما جرى في بعض التفجيرات من تأهيل لموقع التصوير وتوجيه الموجودين - الكومبارس - بطريقة بدائية لأخذ اللقطات والتصريحات. وربما أبرز مثال على ذلك ما رافق تقارير التلفزيون السوري في تفجير الميدان عام 2012. ومع اشتداد الأزمة ووصول الثوار إلى مشارف دمشق في الشهور الأخيرة، أصبح خبر تكذيب هذه الأحداث رئيسياً على نشرة الأخبار، وعادة ما يكون في صياغة شبه موحدة تقول: «كل ما تبثه قنوات العهر المشتركة في إسالة الدم السوري عار من الصحة»، أو «الأخبار الكاذبة التي تبثها القنوات الناطقة باسم المجموعات الإرهابية دليل إفلاس وفشل إرهابييها تحت الضربات الموجعة لقواتنا المسلحة التي تسحق فلولهم». وفي بعض الأحيان يبث الخبر بهذه الصيغة: «كل ما تبثه قنوات الإعلام الدموي المغرض اخبار عارية عن الصحة جملة وتفصيلاً وهي محاولات بائسة لرفع معنويات إرهابييها الذين يفرون أمام بواسل قواتنا المسلحة». هذه الكليشيهات وسواها بدت في البداية ذات بعد سياسي، وتحمل في طياتها صدقية وتأثيراً، ولكن مع الوقت والتكرار تحولت إلى محاولة فاشلة لإخفاء حقائق، بخاصة أن الأخبار -أخيراً- لم تعد ترد فقط من الناشطين في الثورة، بل أيضاً من مراسلي القنوات العربية والعالمية الذين انتشروا داخل الأراضي السورية، ووصلوا إلى الريف الدمشقي. وتحولت هذه الأخبار إلى تأكيد بيّن وجليّ على وقع الأحداث التي تكذبها، بخاصة أن الآلة الإعلامية السورية اشتهرت على مدى عقود بخدمة مصالح النظام الحاكم. من الكليشهات الأخرى والتي أضحت مساراً للضحك والتندر، تلك التي تتحدث عن تفكيك العبوات الناسفة، أو تكبيد العصابات المسلحة خسائر، أو ضبط أسلحة... هذه الأخبار التي لا تسند بصورة، توثقها، يقابلها الجانب الآخر -المعارضة أو القنوات الفضائية- بفيديوات للعمليات من مهاجمة حواجز أو الاستيلاء على أسلحة. واللافت أنه بناء لأخبار التلفزيون السوري المتواصلة على مدار الساعة مثل «اشتبكت قواتنا المسلحة الباسلة مع مجموعة إرهابية مسلحة كانت تورع الأهلي وقتلت (عدد القتلى) منهم، وجرحت (عدد الجرحى)، وألقت القبض على (عدد المقبوض عليهم)»، ومع توارد الأخبار وبثها في شكل متواصل في كل ساعة، فإنه ومنذ انطلاق الثورة، قتلت القوات المسلحة بين 100 و200 مقاتل يومياً في السنة الأولى، وزاد العدد ليصل إلى 300 و500 في السنة الثانية، أي في الشهر وسطياً 8000، وفي 23 شهراً ما يقارب 200 ألف، وضمن النسبة من المعتقلين (200 ألف)، فيما يزيد عدد الجرحى -وفقاً للتلفزيون السوري- ليصل إلى أكثر من 400 ألف. وبحسبة صغيرة نجد أن أكثر من 800 ألف (بين قتيل وجريح ومعتقل)، وهي أرقام أقل ما يقال عنها أنها مرعبة بكل المقاييس، فإذا كان هذا العدد من الثائرين ضد نظام الحكم صحيحاً فهي مشكلة، وإذا لم يتمكن من منع المقاتلين من الوصول إلى العاصمة دمشق فالمشكلة أكبر. ولا يقف الأمر عند هذه الأعداد، فخبر تفكيك العبوات الناسفة وضبط الأسلحة، اليومي أيضاً يعطينا أرقاماً هائلة يمكنها ليس فقط إسقاط النظام السوري، بل يمكنها أن تشعل حرباً عالمية. وغالباً ما يكون الخبر الذي يبث مرات يومياً بأرقام متفاوتة: «وحدة من القوات المسلحة تضبط (رقم ما) رشاشاً بي كي سي، و(رقم ما) بنادق روسية، و(رقم ما) من القواذف والأسلحة الثقيلة منها إسرائيلية الصنع وتركية الصنع، فيما فككت قواتنا الباسلة (رقم) من العبوات الناسفة في (مكان ما)». لكنّ الأكثر طرافة هو الخبر الذي لا يحمل أي أرقام أو أماكن أو أوقات. «قواتنا الباسلة تكبد الإرهابيين خسائر هائلة، وتجرح عدداً منهم، وتأسر آخرين»، أو « وحدات من الجيش تواصل عملياتها في ملاحقة المجموعات الإرهابية التي ترتكب أعمال قتل ونهب»، فبمقدار ما العبارة بسيطة، فإنها تفتقر لمفردات الإجابة عن الأسئلة الأساسية في صياغة الخبر (من؟ أين؟ متى؟ ماذا حدث؟ لماذا حدث؟)، وربما سيسجل هذا النوع من الأخبار كبراءة اختراع لمعدي النشرات في التلفزيون السوري. هذه الأخبار المكتوبة والتي لا ترفق بأي صورة ليست الوحيدة البعيدة عن الواقع، إذ يصل الأمر بمعدي النشرة إلى ابتكار أخبار مثل: «ضبط 50 برميلاً من مادة البنزين كانت محملة في سيارة بيجو معدة للتهريب»، أو «ضبط 300 روسية، و100 قنبلة، و100 قذيفة هاون و 100 عبوة ناسفة في سيارة كيا». هذه الأخبار تبدو منافية للمنطق، ليس في الكميات المضبوطة وكيفية ضبطها، أو حتى من أي أتت، ولماذا هي موجودة في الأساس، ولكن ببساطة في مكان تخزينها (سيارة كيا مثلاً، أو 50 برميلاً في سيارة بيجو). كل هذا من دون أن نتطرق إلى أخبار استنكار استهداف المتظاهرين العزل في مصر أو تونس مثلاً بالغازات أو خراطيم المياه، أو أخبار معاناة أطفال غزة، أو قصف إسرائيل للعزل في إحدى المناطق، وما تحمل هذه الأخبار من نفاق اجتماعي وإعلامي. قد يقول بعضهم إنه من غير المعقول أن يرتكب التلفزيون السوري مثل هذه الأخطاء الساذجة، ويبث أرقاماً غير مدروسة، لكنّ المتابع اليومي لهذه المنظومة الإعلامية، سيجد أن ما ذكرناه من أرقام وأحداث مجرد غيض من فيض. الاستخفاف بعقل المشاهد ليس جديداً على المنظومة الإعلامية السورية، وعلى رأسها التلفزيون الرسمي، ولكن ما وصل إليه أخيراً بفضائيته وإخباريته من إسفاف واستسهال يفوق كل ما سبق، ويصل إلى حد الغباء الإعلامي الذي يفتقر إلى أدنى درجات المهنية. وإذا كانت الصدقية والشفافية لا تندرجان ضمن أساسياته فإن الاستسهال والنفاق من المحركات والركائز الدائمة والضرورية في صيرورته واستمراره.