لُقّب بأبي الانطباعيين لكنه رفض بحزم المشاركة في عروضهم وإن شجّعهم واشترى لوحاتهم. كان همّه قبوله في «الصالون» لكن هذا والنقاد النافذين اعترضوا على تقنيته. فضّل إدوار مانيه الرسم مباشرة على القماش من دون دراسات تمهيدية، ولمسة الفرشاة الحرّة، المنسابة، وترك المنظور للصدفة متمرّداً على إملاء التقليد. بقيت علاقته بالصالون مشوّشة، إذ قبل هذا أعماله بعد جهاد ثم رفضه ليقبله مجدّداً، مبقياً الفنان تحت ضغط الامتحان الدائم طوال حياته القصيرة. تعرض الأكاديمية الملكية للفنون، لندن، أكثر من خمسين لوحة للفنان الفرنسي حتى 14 نيسان (أبريل) تغيب عنها أعمال شهيرة مثل «أولمبيا» و»غداء على العشب» اللتين صدمتا باريس، «حانة في فولي برجير»، «الشرفة» و»إعدام ماكسيمليان». يُركز «مانيه: تصوير الحياة» على الهيئات، ويُظهره رجل أسرة متعلقّاً بأفرادها وبأصدقائه. في القاعة الأولى نرى زوجته سوزان الهولندية في ثوب وردي تعزف على البيانو، وطفلها ليون يركب درّاجة ثلاثية أو ينفخ فقاقيع الصابون بجد وجهد كأنه يخشى اختفاء الدوائر فور تشكّلها. الأم تحدّق في البحر الساكن، والإبن يرفع رأسه عن كتابه. قالت سوزان، التي علّمت العزف على البيانو، إن ليون كان شقيقها الثالث الأصغر، ثم سجّلته رسمياً على أنه ابنها بعد وفاة الرسام في 1883 لكي يستطيع أن يرثها. قيل إنه كان ابن مانيه أيضاً، أو أخوه من والده القاضي الذي راقته النساء وعارض زواجه من سوزان، وتوفي بالسفلس كإبنه. ظهر ليون في سبعة عشر عملاً لمانيه تعرض الأكاديمية خمسة منها. يبدأ المعرض ب «الغداء» الغامضة الجميلة التي يبدو ليون كأنه على وشك الخروج منها. يعارض الفتى بخفّته ثقل الخلفية القاتمة بما فيها المرأة البدينة التي قد تكون والدته. تحمل إبريق قهوة كتب عليه حرف «ميم» في إشارة الى الفنان الذي قد يكون الرجل الملتحي في جانب اللوحة. تحجب القبعة العالية ملامحه، ويبدو شارداً وهو يدخّن الى مائدة أنارها ضوء بلغ إبريق المرأة الفضي وذراعيها، وسطع خصوصاً على وجه ليون وسرواله. كل من الثلاثة ناءٍ بنفسه عن الآخرين، كأن الفنان يبوح، أو يحض الناظر على التفكير في علاقة أحدهم بالآخر. اعتنى مانيه برسم الكوب وفنجان القهوة، وأهمل الرجل والمرأة التي لا نعرف ما إذا كانت تحدّق في الناظر أو الفتى. شبّه البعض هيئات مانيه بالطبيعة الميتة، وسكون «الغداء» اللازمني خلف ليون يغمر الرجل والمرأة والنبات والأسلحة المرمية على الأرض بلا سبب واضح. كان الشاب في العشرين حين صُحّحت معلوماته، وقيل له إن شقيقته هي والدته في الواقع. ازداد تشوّش هويّته، وبات رجل أعمال لا يبالي بالفن، ويمزّق لوحات مانيه التي لم يشترها أحد. أحبّ الأسود الذي قال رينوار إنه لون غير موجود، وإن لكل شيء لوناً بما فيها الظلال، وكان رسّام ستوديو أساساً حتى في الخارج. في «غداء على العشب»، التي لا يشملها المعرض، تجلس امرأة عارية تشعّ نوراً مع رجلين بكامل ملابسهما، يتبادلان الحديث من دون الاعتراف بوجودها. كانت جليسته فكتورين موران، عازفة الكمان المحترفة، التي رسمها في «مغنية الشارع» تأكل الكرز في مكان عام خلافاً لإتيكيت السيدات المحترمات. حملت آلتها ومشت بسرعة، واختفت قدماها تحت ثوبها الطويل البالي الهدب، ولم يخطر لأحد أنها تصلح موضوعاً لهيئة. طاقة اللوحة توحي بالعفوية والسرعة كما لو كانت اللوحة صورة فوتوغرافية في الواقع. يشعّ وجه فكتورين ويداها بنور لا يمتدّ منطقياً الى ما حولها، والأرجح أنه رسمها في الستوديو. لكنه اهتم بحركة مونمارتر وماريه، وتجاهل أبطال التاريخ والدين والميثولوجيا، الذين منحهم التقويم التقليدي الأفضلية، ليصوّر فناني الشارع والحرفيين والعاهرات الذين كان بعضهم أصدقاءه. «عليك أن تنتمي الى زمنك وترسم ما تراه» قال موافقاً على الرؤية الواقعية لصديقيه إميل زولا وشارل بودلير. رأى فكتورين مثالاً على أسلوبه الجديد، وقيل إنه تبعها حين شاهدها تهرول في الشارع. خالفت بقامتها القصيرة وامتلاء جسمها وشعرها الأحمر وثيابها الزرية نساء الهيئات الجميلات، الأنيقات، المنتميات الى الطبقة العليا في زمن الأمبراطورية الفرنسية الثانية. منحها هوية في «فكتورين موران» التي أظهرت شابة غير جميلة تتحلى بكرامة هادئة، وترفع شعرها عن وجهها الوردي بشبكة وشريط أزرق. رسم مانيه فكتورين تسع مرات حدّقت في إحداها «سكة الحديد» في الناظر كأنها رفعت عينيها للتو عن كتابها. تنقل اللوحة مشهداً يومياً يظهر امرأة متوسطة الأناقة، في حضنها كتاب وكلب ومروحة ربما، أمام سور تمسك فتاة بقضبانه وهي تدير ظهرها للناظر. تعارض ثياب الصغيرة الخفيفة ملابس المرأة الرزينة التي ستقيّدها حضارتها بها حين تبلغ، ويبدو ثوبها الأبيض امتداداً لدخان القطار التجريدي الذي يولّد تناقض النور والظل مع ثوب الشابة الكحلي. تجمع اللوحة ثلاث فئات فنية، الهيئة والقصة والصورة الفوتوغرافية السريعة، وتوحي القضبان سجناً نفسياً للمرأة التي لا نعرف علاقتها بالفتاة العارية الذراعين والرجلين. ظهرت فكتورين عارية بشكل جانبي في «غداء على العشب» التي رفضها «الصالون» فعُرضت في «صالون المرفوضات» وصدمت المشاهدين بكون الفتاة تحدّق فيهم مباشرة من دون أن تمد يدها لتغطي جسدها بوشاح كعاريات اللوحات التاريخية. دفع الرجال زوجاتهم جانباً حين بلغوا اللوحة ثم عادوا وحدهم ليتأملّوها برويّة. تكرّر الأمر مع «أولمبيا» التي استلقت فيها فكتورين هذه المرة على فراش غير مرتّب وهي تواجه الناظر وتغطي جزءاً من جسدها بيدها. يعارض البياض الطاغي سواد الخادمة الأفريقية التي تحمل باقة أزهار أمام خلفية قاتمة. أوحى تجاهل المرأة الباقة وافتقارها الى الخجل عملها بنت هوى، أمر صدم حساسيات متذوقي الفن الرهيفة حقاً او ادعاء. درست فكتورين الفن وعرض «الصالون» الذي عصا مانيه أعمالها فتوتّرت علاقتهما، لكنها ما لبثت أن عادت الى العزف في محاولة فاشلة لكسب العيش. نقل وهج الصبا والوعي المفاجئ بالذات لدى إدراك المرء أنه يُراقب في «برت موريسو وباقة بنفسج» ثم صوّر حزن زوجة شقيقه وذبول وجهها لدى وفاة والدها. رسم زولا بأسلوب كلاسيكي يجلس جانبياً وهو يقرأ أمام حائط عُلّقت عليه «أولمبيا» التي دافع الكاتب عنها قائلاً إنه أفضل أعمال مانيه. اختلفت هيئة مالارميه تماماً بعد عشرة أعوام، إذ اعتمد فيها ضربة الريشة الانطباعية السريعة، الكثيفة التي أبرزت نقطتين سوداوين للعينين وشارباً كثّاً اختفى الفم تحته. مال الشاعر بجسده وهو يجلس ويمسك السيغار، وخفتت الألوان باستثناء سترته السوداء. غابت ألوان الانطباعيين البهيجة القوية عن أعماله، وخالف في «موسيقى حدائق تويليري» مزاج النغم الملوّن باكتفائه بالأبيض والأسود والأخضر الباهت. في اللوحة عشرات الأشخاص الذين نتبيّن بينهم هيئات أصدقائه بسراويلهم البيض وستراتهم السود. أحب الإيحاء بأنه أنجز اللوحة في المحاولة الأولى كأنه التقط صورة فوتوغرافية، وشاء أن يفهم المشاهد ما يراه. قال إن الدقة في الفن مسألة أناقة بالضرورة. «إنظر الى مساحات اللون والظل الأساسية في الشكل تجد الباقي ينسجم في موقعه مع غيره».