لا يمل المخرج الكردي بهمن قُبادي، في سينماه، من مقارعة الظلم والاستبداد والوقوف ضد إقصاء الآخر، فأفلامه الروائية الطويلة السابقة «زمن الجياد الثملة»، و «نصف قمر»، و «السلاحف أيضا تستطيع الطيران»، و «لا أحد يعلم بأمر القطط الفارسية»، تنطوي على حس نقدي رفيع، وتتسم بنبرة احتجاجية من دون صخب، إنها تنتفض ضد كل ما يكبل حرية الإنسان، ويهمش طموحه وتطلعاته. وها هو قُبادي، ومن خلال فيلمه الجديد «موسم الكركدن» («فصل كركدن» بالفارسية، و «موسم وحيد القرن» في بعض الترجمات العربية)، يخوض فصلا آخر من فصول التحدي في وجه «فقهاء الظلام» عبر حكاية تراجيدية بالغة القسوة والألم. يستحضر قُبادي في فيلمه الجديد، الذي أنتجه مارتن سكورسيزي، قصة واقعية بطلها المثقف اليساري والشاعر الكردي الإيراني ساهل فرزان (يجسد دوره على نحو لافت، بهروز وسوقي)، الذي قضى ثلاثين عاماً في سجون الثورة الإسلامية الإيرانية، ليخرج محطم القلب، عاجزاً عن التآلف مع موسيقى الحياة. لا عناوين لأصدقاء وأقارب، ولا أخبار عن اسرته وزوجته. يعيش صراعا داخلياً أخرس، فتقوده خطواته التائهة، المثقلة بوطأة الخسارات، إلى موطن عشقه الأول قرب الشجرة المعمرة، فيما صوت المرأة ينشد فقرات من قصيدة له: ماذا تريد من الأراضي، والتربة/ ألم يطلقوا سراحك؟ /لقد أعلنوا موتك/ سواء كنت حياً أو ميتاً، لا أحد يعلم/ خيّط شفتيك/ واحمل الجدران على كتفيك، وارحل». الحزن في كل مكان بهذه المفردات الموجعة يهيئ قُبادي مشاهده للدخول إلى أجواء هذا الفيلم العابق بالحزن، والذي يعيد تفاصيل مأساة تهز الوجدان والضمائر. ساهل فرزان كان شاعراً، يعيش حياة هانئة في إيران إبان عهد الشاه. لا تتسع رحابة العالم لطموحاته وأحلامه التي يتقاسمها مع محبوبته وزوجته الفاتنة مينا (مونيكا بيلوتشي)، ابنة ضابط برتبة عقيد، غير أن الثورة الإسلامية الإيرانية، التي اندلعت نهاية سبعينات القرن الماضي، تعصف بكل تلك الأحلام والآمال، وتطفئ نور القصيدة في عتمة زنزانة باردة. وشاية بسيطة من السائق، الذي أصبح عضواً في «الحرس الثوري» بعدما كان سائقاً لدى عائلة مينا ووقع في غرام الأخيرة، تودي بالشاعر وبزوجته إلى السجن. التهمة جاهزة طبعاً، فبطل الحكاية هو سني المذهب، كما يرد في لائحة الاتهام، وهو كردي فوق ذلك، لا بل وشاعر أيضاً. هذا الاتهام المثلث كفيل لدى قضاة «الثورة العادلة»! كي يحكموا عليه بالسجن ثلاثين عاماً، بينما اتهمت زوجته بمؤازرته في كتابه «القصائد السياسية»، فحكم عليها بعشر سنوات. ثلاثون عاما يقضيها الشاعر بين جدران السجن وهو يتساءل عن ذنوب اقترفها تستدعي هذه العقوبة القاسية، فلا يعثر في سجله على شيء سوى عشقه للحياة، وشغفه بوهج الحروف، هو سجل إنسان ينوء بإنسانيته. وفي غضون ذلك يجبر السائقُ الواشي زوجةَ الشاعر السجين على الزواج منه بعدما أتمت عقوبتها، لتستقر في إسطنبول، عقب إبلاغها كذباً أن زوجها الشاعر قد توفي. تلك هي العناوين العريضة لحكاية الشاعر المؤلمة، ومن العبث التدقيق في تفاصيلها ونسج خيوطها في صورة سردية تقليدية، فاختزال ثلاثة عقود من الحنين والشقاء والحسرة في شريط سينمائي هو مغامرة لا جدوى منها، ولعل قبادي يدرك قبل غيره مثل هذه المجازفة، فلا يأبه كثيراً لسرد منطقى طالما أن الحكاية هي من القسوة بحيث لا تصدّق. وهو ليس من السذاجة بحيث يراهن على شباك التذاكر والجمهور. موضوع على هذا القدر من الحساسية والإجحاف، يتطلب معالجة سينمائية مختلفة، وهو ما يفعله قُبادي، إذ يتقصى مرارة التجربة بحذر، ويرصد معانيها وتداعياتها العميقة، وانعكاساتها في نفسية الشاعر، الذي دخل السجن شاباً متَّقِداً بالحماس والتفاؤل ليخرج منه شيخاً مسناً مكتئباً، يختزن في ملامح وجهه المتغضن كل أحزان الكون، وحتى بحثه عن زوجته مينا لم يفلح في شيء سوى في إيقاظ مشاعر الضياع والتيه والنقمة الصامتة على نظام سلب عمره، وتركه مجرد شبح يطارد سنوات صباه المشرقة، بلا أمل، وكأن الظلام الكئيب الذي كان يلف عالمه الضيق في السجن تغلغل إلى أعماقه حتى بات صعباً عليه أن يفلت منه رغم خروجه منه، فهذا العالم الفسيح أصبح مظلماً مثل جدران السجن الذي كان يخط عليها أشعاره. المحنة تبدأ الآن هذه الحقيقة المُرة يلتقطها قبادي بكثير من النباهة، فيمضي مع بطله المعذب في محنته التي لم تنته بعد انتهاء السجن، بل ربما بدأت الآن. وبتلك الرؤية السينمائية المرهفة يصوغ المخرج فضاءات شاعرية وكأنه يكتب قصيدة بصرية. مفردات القصائد التي تحكى خلال الفيلم، نجد لها معادلاً بصرياً على الشاشة: الثلوج والأمطار وأمواج البحر والأشجار العارية والضباب والغيوم والأراضي القاحلة الجرداء... كلها عناصر تشترك لبناء مناخ سينمائي خاص. لقطات ومشاهد تمتزج عبر لعبة النور والظلال سرعان ما تتوارى خلف غلالة من الحزن، وكأنك تشاهد الفيلم بعين دامعة لا تقوى على التمييز تماماً، بيد أنها تدرك معانيه بوضوح. عين المخرج مولعة بشاعرية ظليلة تشحن الصور بالرموز والإحالات والتأويلات، كذلك المشهد الذي تهطل فيه السلاحف من الأعلى، أو مشهد قطعان الكركدن وهي تهرع هائجة خائفة في اتجاهات مختلفة في عراء قاحل، أو مشهد الطفيليات التي تمتص دماء البشر، أو مشاهد القبور الموحشة وسط أشجار عارية وسماء عاصفة. لا يستثمر قُبادي رهافة الشعر ورمزيته، هنا، من باب التجريب السينمائي، بل إن هذا المقترح الجمالي يلائم بالضبط روح الحكاية التي تتداخل عبرها الأزمنة والحالات وأصداء الماضي البعيد ومتاهات الحاضر التي تتجلى وسط ديكورات وأمكنة ذات إضاءة خافتة، ومن خلال إيقاعات بطيئة للكاميرا لتعكس المرارة التي تغلي في روح الشاعر، وتتأجج هذه المشاعر الغامضة على وقع الموسيقى التصويرية الشجية التي وضعها كيهان كالهور. وفي موازاة هذا المنحى الشاعري الرقيق الذي يُظهر مقدار الفجيعة، فإن المخرج لا يغفل، وإنْ بإشارات عابرة، عن التهكم والسخرية من تلك المحاكمة العبثية السريعة التي عبّرت عن جهل بقيمة الإنسان وقيمة القصيدة، فأي نظام هذا الذي يحكم على شاعر لم يقترف أي ذنب، وهل هي حقاً ثورة ضد الظلم والقمع ولتحقيق العدالة؟!! الجواب بالطبع واضح في ذهن المشاهد والمخرج والشاعر، غير أن الأخير سيخفق في أن يستعيد حياته المستلبة، فالانسلاخ عن مهد الصبا والمكوث في السجن طوال ثلاثة عقود، شكَّلا صدمة نفسية قاتلة ترجمها المخرج في الكثير من المشاهد عبر عقد مقارنة بين ماض مضيء وحاضر مثقل بالأسئلة والجروح النازفة، وما بينهما زمن طويل من عزلة أشبه بالموت، كما يعبر الشاعر في مقطع مجازي: «الأرض سطح ملح قاس. وحيد قرن مال برأسه ولَعقه بفم فارغ». سيأتي انتقام الشاعر في نهاية الفيلم ملتبساً، إذ يقتل خصمه بإغراق سيارته في البحر. لكنه بذلك يعلم أنه سيغرق معه، وهو ما يحدث فعلياً، بيد أن خيال المخرج لا يرضى بهذه النهاية الناقصة، إذ يظهر البطل في اللقطة الاخيرة ماضياً باتجاه أرض جرداء وضياء باهر وهو يردد في دخيلته -كما نخمّن- تلك العبارة الفذة لإليوت: «ليس لك شباب ولا شيخوخة، بل كما لو كنت في قيلولة وحلمت بكليهما».