يردد الشاعر إيليا أبو ماضي عبارة "لستُ أدري" كثيراً في قصيدته "الطلاسم" ليُعبّر عن ارتباكه أمام مغزى الحياة والمصير، ويبدو أن المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي قد امتثل هذا المعنى فقام بالعزف عليه بمهارة في فيلمه الأخير (جزيرة شاتر-Shutter Island) معلناً شكه الصريح في وجود "الحقيقة" ومستعيناً بخاتمة مُربكة أنهى بها فيلمه ليجعل المُشاهد في حيرة تامة: أين الوهم وأين الحقيقة من كل ما رآه؟. وكأنه بيان سينمائي يُجسد أفكار مذهب ال"لا أدرية" تجسيداً فيزيائياً ملموساً!. ومع ذلك فلا تظن أن الفيلم فلسفي يتناول أفكاراً مجردة ، إنه بوليسي مثير يقدم حكاية محقق فيدرالي يكلف بمهمة التحقيق في قضية اختفاء مريضة من مصحة عقلية تابعة للاستخبارات الأمريكية، وهي قصة تبدو للوهلة الأولى بسيطة وذات بعد واحد هو البعد البوليسي ، لكن مارتن سكورسيزي يُدير موضوعه بمهارة فائقة ليمنحه عمقاً أكبر. وقد ساعده في ذلك الظهور المتألق للممثل ليوناردو دي كابريو الذي أدى شخصية المحقق الفيدرالي والممثل البريطاني بين كينغسلي بشخصية مدير المصحة العقلية. يبدأ الفيلم مع المحقق تيدي دانيلز -دي كابريو- وهو على متن سفينة في طريقه إلى "جزيرة شاتر" للتحقيق في قضية هرب مريضة من مصحة عقلية وهذا هو الهدف الذي يتظاهر به، أما هدفه الحقيقي فهو الكشف عن الممارسات غير الإنسانية التي تمارسها الاستخبارات الأمريكية ضد المرضى في خمسينيات القرن الماضي حيث تُجري تجارباً على عقولهم لأغراض جاسوسية خسيسة. وهذا ما يجعل المحقق في مواجهة عنيفة مع مدير المصحة الدكتور كاولي –كينغسلي- الذي يرفض الإدلاء بأي شيء يتعلق بقضية المريضة مع استعداده للبطش بكل من يحاول إعاقة مشروعه الطبي. ومع أجواء التحقيق ومحاولات البحث عن الحقيقة، وما بين الشد والجذب بين المحقق والطبيب والمرضى والممرضين يقوم مارتن سكورسيزي بتطعيم قصته بأبعاد نفسيةٍ خاصةٍ بالمحقق تيدي وبماضيه الأسود الذي رأى فيه الموت مجسداً في ضحايا الحرب العالمية الثانية التي شارك فيها مع الجيش الأمريكي وكذلك في جثة زوجته التي ماتت بطريقة غامضة يجهلها هو بنفسه حيث لا يدري هل ماتت بسبب حريق شب في منزله أم بسبب طعنة تلقتها على ضفة بحيرة جميلة!. وقد برع سكورسيزي في تصوير مشاهد الماضي بطريقة سريالية جعلها تبدو كما لو كانت حُلما أو هذيان عقل مريض. هذه المشاهد كانت كابوسية وجميلة في الوقت ذاته، ودموية إلى حد كبير وهي تشبه اللحظات التي تألق في تصويرها الروائي الروسي فيدور ديستوفسكي في روايتيه العظيمتين "الجريمة والعقاب" و"الأبله"، وقد يكون التشابه مقصوداً من سكورسيزي خاصة مع إشارة إحدى المريضات أثناء التحقيق معها إلى أنها قتلت زوجها بالفأس، والفأس - كما هو معروف - هو أحد أبطال "الجريمة والعقاب"، كما أن تصوير مشهد البحيرة بكل ما احتواه من تناقض في مشاعر الزوجة هو قريب من مشهد الختام في رواية "الأبله" حين جلس الأمير ميشكين على السرير مبتسماً وسعيداً وإلى جانبه ترقد حبيبته وهي ملطخة بدمائها!. مارتن سكورسيزي استعرض قدراته الفنية في هذا الفيلم مقدماً لوحات جمالية بديعة، ودرساً بليغاً في "كيف تحكى الحكاية"؛ ذلك أن حكايته كانت محكمة ومغلقة من كل جانب، رغم احتوائها على لغز معقد وخدعة كبيرة. ولو أن الفيلم عُرض كما كان مقرراً في نهاية العام الماضي 2009 لكان قد اكتسح موسم الجوائز ولأصبح أحد الرابحين في حفل الأوسكار الأخير، حتماً نظير هذا الكمال الفني المُهيب الذي قدمه سكورسيزي وأكده دي كابريو بأدائه المميز في رابع فيلم يجمعه بالمخرج الكبير بعد الأفلام: (عصابات نيويورك-Gangs of New York) 2002, (الملاّح-The Aviator) 2004, (المغادر-The Departed) 2006.