باتت الأزمة السياسية التونسية مرشحة لمزيد من التفاقم بعد إعلان رئيس الوزراء حمادي الجبالي فشل مشاوراته مع الأحزاب لتشكيل حكومة كفاءات، وسط توقعات بتقديم الجبالي استقالته للرئيس منصف المرزوقي في وقت متقدم من مساء أمس. ونقلت وكالة «فرانس برس» عن مصدرين من داخل الحكومة وآخر من حزب «حركة النهضة» الإسلامي الحاكم أن رئيس الوزراء كان يستعد لتقديم استقالته أمس. وقال عضو في الحكومة إن الجبالي ودّع صباح أمس مجلس الوزراء وطلب من أعضائه «تصريف الشؤون اليومية». وأضاف: «لم ينبس بكلمة استقالة لكن فهمنا بوضوح أنه سيلتقي الرئيس لإعلان ذلك». وأشار عضو آخر في الحكومة إلى أن الجبالي «أعلن بوضوح أنه راحل». وكان مقرراً أن يلتقي الرئيس المرزوقي مساء أمس رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر قبل اجتماعه بالجبالي. وأكد مسؤول في «النهضة» استقالة الجبالي «للوفاء بوعده بالرحيل» في حال فشل مبادرته لتشكيل حكومة كفاءات غير حزبية. لكنه رأى أن «لا شيء يمنع إعادة تكليف الجبالي بتشكيل تحالف حكومي جديد». وكان اللقاء الأخير الذي عقده الجبالي مع رؤساء الأحزاب الحاكمة والمعارضة شهد تبايناً في وجهات النظر بين رئيس الحكومة ومسانديه من المعارضة من جهة و «النهضة» وحليفها حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» من جهة أخرى، إذ رفض هذان الأخيران في شدة اقتراح الجبالي تشكيل حكومة كفاءات مستقلة عن الأحزاب السياسية. وأجرى المرزوقي مساء أمس لقاءات مع الأحزاب في القصر الرئاسي في قرطاج للتشاور في شأن الوضع الراهن. ورجح مصدر في القصر إعادة تكليف الجبالي من قبل رئيس الجمهورية بتشكيل حكومة جديدة على أسس جديدة وبتوافق وطني أوسع من المرة الأولى أو رفض استقالته والسماح له بمواصلة مشاوراته في شأن التعديل الوزاري، خصوصاً أن قيادات في «النهضة» وأعضاء في الحكومة أكدوا في عدة مناسبات أن «النهضة» متمسكة بأمينها العام رئيساً للوزراء حتى في حال استقالته. ورغم الأخبار التي تداولتها وسائل إعلام محلية مفادها أن «النهضة» سترشح وزير الصحة الحالي عبداللطيف المكي لخلافة الجبالي، إلا أن هذه الفرضية تبقى مستبعدة خصوصاً أن إعلان مبادرة الجبالي بعد اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد أحدث انقساماً في «النهضة» تسعى إلى رأب صدعه حالياً، وليس من مصلحتها التضحية بالجبالي الذي لا يزال يحتفظ بوزن لا بأس به داخل الحزب الحاكم. كما أن موقف «النهضة» الداعي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية لم يتغير حتى بعد استقالة الجبالي، في مقابل رفض شديد من المعارضة لأي حكومة تكون فيها وزارات السيادة تحت سيطرة «النهضة». وقال الناطق باسم «الحزب الجمهوري» المعارض عصام الشابي ل «الحياة» إن حزبه «منفتح على التشاور مع من سيكلفه رئس الجمهورية تشكيل حكومة جديدة ومستعد لدعم أي حكومة تخرج بالبلاد من الأزمة». لكنه شدد على أن «المعارضة تتمسك بحد أدنى وهو تحييد وزارات السيادة». لكن الفترة التي امتدت بين اغتيال بلعيد وإعلان الجبالي فشل مبادرته أظهرت أن «النهضة» لديها القدرة على الإمساك بخيوط اللعبة السياسية عبر الغالبية النسبية التي تملكها في المجلس التأسيسي، إضافة إلى استغلالها عامل الوقت الذي سمح لها بالعمل على تأمين غالبية نيابية مستعدة لإسقاط مبادرة الجبالي قبل نجاحها، إضافة إلى عرض قوتها في الشارع. وتعتبر استقالة الجبالي تتويجاً لجهود «النهضة» منذ بدء الأزمة، لأنها بذلك تستعيد زمام المبادرة السياسية بعدما فقدتها عقب اغتيال بلعيد، حتى وإن أعادت ترشيح الجبالي لرئاسة حكومة جديدة. فهو آنذاك سيصبح رئيس الوزراء المكلف الذي رشحته الغالبية النيابية ولن يملك القوة المعنوية والمبادرة التي تمكنه من التشاور والتصرف بعيداً من إملاءات «النهضة» وشروطها. في السياق نفسه، يبقى التحدي الذي يواجه الحكومة الجديدة هو نفسه الذي واجهه الجبالي، فوجهات النظر بين الأحزاب لم تتغير والمواقف هي نفسها إضافة إلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي يوشك على الانفجار. ورغم أن «النهضة» أبدت استعدادها للتفاوض لتشكيل حكومة سياسية حتى وإن كان ثمن ذلك تخليها عن بعض وزارات السيادة، إلا أن التوافق الوطني لن يكون شاملاً من دون تلبية طلبات المعارضة المتمثلة في تحييد الوزارات السيادية، إضافة إلى الموقف الراديكالي الذي اتخذته «الجبهة الشعبية» اليسارية بالدعوة إلى عقد مؤتمر عاجل ل «الإنقاذ» تنبثق من حكومة أزمة تدير البلاد حتى موعد الانتخابات المقبلة.