زيارة مركز الفنان التشكيلي بول كلي في العاصمة السويسرية برن، هي أهم طقس من طقوسي في سويسرا، بعد طقس زيارة برن نفسها، أجمل مدن العالم التي وضعتها اليونسكو، أي المدينة كلها، على قائمة التراث العالمي منذ سنوات. أدخل إلى المركز الذي يهل أمامي رويداً رويداً بعد مغادرتي محطة الباص، فهو بني على هضبة عالية تطل على الطريق الرئيس «أوتوروت»، والباص صاعد من السهل. عمارة المركز ذاتها متميزة وتحتاج إلى أن تُدرج ضمن محاضرات طلبة العمارة في أي مكان في العالم العربي. صمم المعماري الإيطالي رينزو بيانو هذا المبنى الفريد، آخذاً شكل ثلاث أمواج معدنية ضخمة متعاقبة أفقية... هكذا ببساطة. ذهب إلى البحر منشئاً عمارة بينما لا بحر في سويسرا! المركز ليس متحفاً بالمعنى التقليدي لأعمال الفنان السويسري بول كلي (1879 – 1940). لكن فيه صالتين ضخمتين للعرض. ينظمون معرضاً كبيراً في كل صالة كل فترة تحت موضوع ما، أحد المعرضين لأعمال بول كلي فقط والآخر لأعمال فنانين آخرين يكون من بينهم بول كلي. هكذا تتاح الفرصة للمشاهد أن يرى تركيزاً على جوانب مختلفة من أعمال صاحب المركز. وهو من أكثر الفنانين غزارة وتنوعاً في الإبداع من مختلف الجوانب: الموضوعات، الأساليب والخامات أيضاً. أدخل المركز في كل مرة من دون معرفة مسبقة بموضوعات معارضه. أتركه يفاجئني. أحب المفاجآت بخاصة في الفن، كذا في الحياة طبعاً، على أن تكون سارة! هذه المرة وجدت المركز يقيم معرضاً عن علاقة الكتابة، العلامة والخط بالعملية الفنية. أعجبني كثيراً عنوانه «خُذ خطاً وأنت تمشي». يا لبساطته ورمزيته، كما يقال لك مثلاً: خذ عصيراً وأنت تمشي. هذا العنوان العبقري مأخوذ من فقرة كتبها بول كلي نفسه عندما كان يتحدث عن صباه. لكني فهمته أيضاً على أنه يريد أن يقرب التشكيل إلى الإنسان العادي إلى هذا الحد من البساطة والمرح. لذلك لم أندهش عندما نظم بينالي «برنو» (في جمهورية التشيك) الدولي للتصميم الغرافيكي هذا العام، معرضه الرئيسي حول تعليم التصميم تحت العنوان ذاته. وأقام متحف «تيت غاليري» في لندن في تشرين الأول (أكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي دورة تدريبية للشعراء تحت العنوان نفسه مستلهمين نصيحة المصور ومحولين إياها إلى الشاعر. بل وجعله المخرج البريطاني ليزلي كين اسما لفيلم تسجيلي كتبه وأخرجه عام 1983 تحية للفنان السويسري، وعرضته القناة الرابعة لتلفزيون «بي بي سي». فالخط ليس شكلاً فقط، وإنما يمكن أن يكون دليلاً أو مرشداً أيضاً. عندما يبدأ، فلنقل المبدع أياً كان، بالإمساك بخط، من حيث هو نقطة، يسير به أو معه في رحلة لتشكيل صورة لا يعرف تفاصيل سياقها ولا نهايتها. صورة مصورة أو صورة شعرية. يقف فقط عندما يشعر داخله أن الرحلة انتهت. هنا يترك الخط بعد أن تحول إلى عالم. ويمضي الفنان وحيداً ليمسك بخط جديد في رحلة جديدة. مع ذلك، فإن موضوع المعرض ليس بهذه البساطة. إنه يفتح جانباً من أسرار التشكيل. سر العلاقة بين الخطوط والحروف والنقاط والعلامات (منفردة أو مكتوبة) وبين التصوير أو الرسم وأحياناً النحت. الكتابة لا تنقل فقط المضمون ولكنها تنقل أيضاً الشكل. هيكلها يضع خطوطاً وحروفاً تتوافق مع قواعد معينة، سواء كانت هذه الكتابة أفقية، كما في اللغات العربية والأوروبية، أو رأسية كما في لغات آسيوية. مع ذلك فالمعرض ليس عما يطلقون عليه بالعربية «الحروفية» التي يستخدم فيها المصور حروف اللغة في التشكيل. فهذه الحروفية تجدها عرضاً في بعض من لوحات المعرض وليس أساساً له. معنى الكتابة لا يحدده الكاتب وحده، وإنما القارئ أيضاً. هكذا الأمر مع العمل الفني. من هنا تزيد أهمية العملين: الكتابة والفن. اختار منظمو المعرض ثمانية فنانين، بمن فيهم كلي، من فناني القرن العشرين الذين تميزت أعمالهم عموماً أو في مرحلة من مراحلهم الفنية باستخدامهم الخط. لا أعرف لماذا اختار كوميسير المعرض معظم الفنانين العارضين من الولاياتالمتحدة الأميركية (خمسة) مقابل ثلاثة أوروبيين؟ هؤلاء الفنانون هم: الأميركيون كرستوفر وول 1955، جوناثان لاسكر (1948)، مارك توبي (1890 – 1976)، سي تومبلي (1928 – 2011)، وبرايس ماردن (1938)، مع السويسري بول كلي (1879 – 1940)، والفرنسي هنري ميشو (1899 – 1984)، والنرويجي أولاف كريستوفر ينسين (1954). على كل حال جميعهم يشتركون في ظاهرة واحدة هي اعتمادهم على الخط. الخط الذي يبدأ نقطة وينتهي دائرة، أو يتوقف علامة وما بينها من أشكال لا تنتهي. من هذا الاستخدام تولد رموز، وينشأ توتر بين قصد الفنان وعفويته. يسلط المعرض الضوء على طبيعة الكتابة في التشكيل، انطلاقاً من اهتمام بول كلي بالكتابة اليدوية وفن الخط. فالكتابة تتبع قواعد معينة لكي تكون مفهومة، لكنها بالتوازي تعبر عن حساسية فردية. وكما توحد بين المفهوم والإيماءة، تعمل في هذا المعرض مثل «الموديل» أمام الفنان. لا يوظف الفنانون المختارون في هذا المعرض الكتابة كعنصر بصري فقط، لكنهم يضعون ممارستهم الفنية بين قطبي العفوية والمفاهيمية. أكدت اللوحات المعروضة أهمية الحركة، حركة الخط، في إبداعها. لذا تنوع مظهر اللوحة من فنان إلى آخر تنوع ألوان الطيف، تغطي إيماءات وإيحاءات متعددة المفهوم. من إيماءات لغة هنري ميشو التي توحي بتأثيرات من الحروف الصينية، إلى إيماءات لغة بول كلي المخترعة وكأنها تصميم جديد للغة فاقدي البصر، ولوحات جوناثان لاسكر المفاهيمية، ورسم كريستوفر وول بالكلمات. لأنني لا أستطيع هنا التوقف أمام لوحات كل فنان مشارك في هذا المعرض، أضرب أمثلة عن علاقة اللوحة بالخط عند ثلاثة من المصورين مختلفي الجنسيات. كتب الأميركي كريستوفر وول: «أريد أن أحافظ، في صفقة جيدة، على كل من المخطط وغير المتوقع». لذا، مثلاً، استوحي كلمتى sex luv التي وجدها مرسومة على شاحنة بيضاء صغيرة ليبدأ في دمج حروف في لوحاته. أنتج بين عامي 1987 و2000 حوالى 75 لوحة مما يسمى «تصوير بالكلمات». كلمات سوداء منظمة على خلفية بيضاء طبقاً لمعيار التكوين التصويري، وليس طبقاً لمعاني الكلمات. حلل تعبيرات وأخذ جملة بعيداً من سياقها. كان يأخذ كلمات وأقوالاً مأثورة من الحياة اليومية، أو العناوين أو العبارات المقتبسة والنقوش. في عمل وول تتحول الكلمة إلى صورة وتفقد المعلومة معناها. بدأ الشاعر الفرنسي البلجيكي المولد هنري ميشو التصوير في نهاية العشرينات من القرن الماضي، كنتيجة، كما قال، لمشاهدته معرضاً لبول كلي ولرحلة إلى الشرق. زار بالفعل الصين واليابان والهند في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي. أعجب بفن الخط ودرسه، كما أعجب بأعمال عدد من المصورين ودرسها. في بداية عام 1927 أنتج رسمين بعنوان «سرد وأبجدية» كانتا بداية أعماله كمصور. كان هدفه توحيد الكتابة والرسم. ليست رموزه التصويرية عن اللغة، لكنها تعبير عن مشاعر. تشكيلات الخط عنده مفعمة بالحيوية التي تقتفي أثر الحركة. هذا نجده أيضاً في فن كلي الذي استلهم رسومه على المستوى البصري البحت من طرق مختلفة للكتابة. دمج حروفاً من الأبجدية اللاتينية في تصويره، مطوراً هيروغليفيته كعلامات مستوحاة من السمات المميزة لمخطوطات أخرى. تعامل مع الشعر الصيني، فهم حروف الكتابة كمنشآت معمارية أو كخطوط متتابعة. كانت الكتابة والرسم بالنسبة إليه من جذر واحد، لأنهما يرتكزان على الخط الذي ينشأ من نقطة هي نفسها متحركة. بالنسبة إلى كلي، كان إتقان وسائل التصوير شرطاً مسبقاً لتطوير إيحائي حدسي لما سماه «الخط الحي».