في خروج عن سياق الأخبار المقبلة من سورية، أصدر الرئيس السوري بشار الأسد في 10 شباط (فبراير) الجاري مراسيم تشريعية تضمّنت تعديلات وزاريّة لم تطاول الحقائب السيادية، كان من بعض قراراتها استحداث وزارتين جديدتين، الأولى للشؤون الاجتماعية، والثانية للعمل، فضلاً عن تعديل وزاري شمل وزارات أخرى هي الإسكان والتنمية العمرانية، والأشغال العامة، والزراعة والإصلاح الزراعي، والنفط والثروة المعدنية، والمالية. للوهلة الأولى، تبدو هذه القرارات، وما سيأتي لاحقاً من مثلها، نموذجاً آخر عن منهج «الانفصال عن الواقع» باعتباره منهجاً نفسياً طالما مارسه النظام الحاكم في سورية، ليس في زمن الثورة وحسب، وإنما في كل ممارساته التي يحلو أن يسميها «التحديث والتطوير»، بما تضمره من توطيدٍ للاستبداد والنهب الممنهج لثروات البلاد الطبيعية والاقتصادية لمصلحة طغمة تتمفصل عضوياً مع منظومة أمنيّة محليّة إقليمية ذات امتدادات عالمية. وإلا فما معنى هذا التغيير الوزاري، فيما التظاهرات المطالبة بسقوط النظام ورحيله لم تتوقف، وقوات الجيش الحر تتقدم على بعد كيلومترات من القصر الجمهوري، والمأساة الإنسانية تتفاقم في معظم مدن سورية وبلداتها وقراها، حتى باتت كارثة حقيقية لم تنجلِ بعد أبعادها، نظراً إلى تعذّر حصرها وقياسها؟ الواقع أن منهج «الانفصال عن الواقع» هذا الذي اتبعه النظام، والذي بات فولكلوراً مسجلاً باسم البعث بصيغته الأسدية، والمتمثل في إضفاء شعارات حضارية براقة على كل شغلٍ دؤوب يشتغله على صعيد منمنمات الاستبداد الشمولي، تكثّف بعد بدء ثورة الكرامة السوريّة، تارة في شكل إلغاء قانون الطوارئ والاستعاضة عنه بقانون تنظيم التظاهرات، وتارة في إصدار قانون للأحزاب، وتارة أخرى في تغيير الدستور والاستفتاء «الشعبي» عليه، وتارة في «عرس الديموقراطية» المتمثّل في «انتخابات» مجلس الشعب. لكن، يتعيّن الاعتراف بأن تلك الشعارات البراقة، كانت تتمكّن – على زيفها - من مخاطبة جمهور داخلي أو إقليمي أو عالمي معين، سواء جمهور «حزب الخبز والأمان» الذي يمثل شريحة السوريين المتحسّرين الذين يرون أن سورية كانت جنّة الأمان قبل الثورة، أو قوى الابتزاز الإقليمية التي تهدد بامتداد لهيب النيران إلى خارج حدود سورية، أو قوى اليسار العالمية المناوئة للإمبريالية التي ترى في بشار الأسد ما كانت تراه مرّة في ياسر عرفات، أو – وهذا هو الأهم - دوائر صنع القرار في حكومات «المجتمع الدولي». من هنا، يتعيّن النظر مليّاً فيما تعنيه قرارات التغيير الوزاري الأخيرة في سورية، وفي الرسائل التي ترسلها إلى فئات الجمهور المبينة أعلاه. فهي هنا تختلف اختلافاً جذرياً عن القانون الطريف الرقم 24 الذي صدر في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 2012 بخصوص «الأمان الحيوي للكائنات الحية المعدّلة وراثياً ومنتجاتها»، والذي أثار موجة واسعة من التندّر. إذ يبدو أن التغيير الأساس هنا هو استحداث وزارتين جديدتين، الأولى للشؤون الاجتماعية، والثانية للعمل، وذلك بدلاً من وزارة واحدة تحمل اسم «وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل». أما باقي التغييرات، فهي تغييرات في أشخاص يتسلمون حقائب وزارية، في وزارات قائمة، تتصل اتصالاً متفاوت الأهمية بالشؤون الاجتماعية وبقضايا العمل. الحقيقة الأولى التي لا ينبغي نسيانها أن مسألتي الشؤون الاجتماعية، والعمل، باتتا تحتلان الأولوية الأولى لدى مستوعبات الفكر، ومراكز البحوث الإقليمية والعالمية، عند معالجتها «ظاهرة» الربيع العربي في بلاد تضمّ اليوم أكثر من 100 مليون شاب تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً، هي أعلى نسبة للشباب في تاريخ المنطقة؛ وتعاني فضلاً عن ذلك من أعلى نسبة بطالة بين الشباب في العالم، تصل بعض تقديراتها الرسمية المتفائلة إلى 25 في المئة. وهي متفائلة، لأنها تستخدم أدوات تقدير لا تتشابه مع الأدوات القياسية التي تستخدمها إحصائيات الدول المتقدّمة. والحقيقة الثانية هي أنّ مسألة البطالة، كقضية اجتماعية قابلة للتفجّر، باتت هاجساً يرخي ظلاله القاتمة على راسمي السياسات في مختلف الدول العربية، وينوء بثقله كذلك على كاهل صانعي القرارات في الدول المهمومة بشؤون الربيع العربي، الذين يسعون معاً على قدم وساق، عبر استنفار المؤتمرات والدراسات والموائد المستديرة، إلى الإسراع في استخلاص الدروس واستنباط الحلول التي تساعدهم على «تجفيف» ما يرونه منابع الربيع. من هنا، يغدو من السذاجة اعتبار المراسيم الأخيرة مجرد «انفصال عن الواقع»، أو محض «تعديل وزاري محدود تحت ضغط الأزمة الاقتصادية»، خصوصاً إذا ما أتبعها النظام بمجموعة من الدراسات والتحليلات والرؤى ليستخدمها كأدوات في إقناع أولئك المهجوسين بالربيع العربي أنّ لديه خطّة ما لمعالجة المشكلة من أسّها في السياق السوري، على ما يكتنف هذه الهواجس من خلل يعتورها حين تعتبر الربيع العربي مسألة خلل فقط في ميزان العرض والطلب على الوظائف. يحارب النظام السوريّ على أكثر من جبهة. وها هو، على رغم تساقط المواقع والمطارات يوماً وراء آخر في أيدي الجيش الحر، يجيد لعبة إرسال الرسائل المختلفة في أكثر من اتجاه، ويستطيع وضع تصورات للدوائر العالمية تبقيه خياراً قائماً من خيارات المرحلة المقبلة، أو على الأقل لاعباً مهماً فيها، باعتباره الأكثر جاهزيّة بمؤسساته. وهو في مراسيمه الأخيرة يوجّه إحدى رسائله إلى هؤلاء المهجوسين. وإذا كان مقدراً لهذه الثورة أن تعالج الكثير من المسائل الاستراتيجية والمصيرية حتى قبل إنجاز سقوط النظام، فإن إحدى أدواتها في ذلك هي إحباط لعبته هذه، وما قد يترتّب عليها من تقوية أوراق بقائه لفترة أطول، وسحب البساط من تحته عبر المباشرة الجدية بإنشاء مؤسسات دولة، ومراكز أبحاث، ووضع كل ما يلزم من رؤى وخطط متكاملة متماسكة لمعالجة الاستحقاقات الاجتماعية الجسيمة المقبلة، فضلاً عن الراهنة، ومن بينها الشؤون الاجتماعية وقضايا العمالة. * كاتب سوري