بتوجيه من سمو ولي العهد.. استضافة محادثات بين روسيا وأمريكا.. مملكة الأمن والسلام العالمي    ( 3-1) السعودية محط أنظار العالم    تعزيز الأمن الغذائي بالقصيم    الموارد البشرية: بدء سريان تعديلات نظام العمل اليوم    نظرة عن سلبيات وإيجابيات الذكاء الاصطناعي    سنواصل العمل على تهيئة الظروف للقاء بوتين وترمب.. وزير الخارجية الروسي: مباحثات الرياض مثمرة    مساعد بوتين: اللقاء مع المسؤولين الأمريكيين كان بنّاءً    القمة العربية الطارئة 4 مارس المقبل.. السيسي يبحث خطة إعمار غزة    هنأت رئيس جمهورية جامبيا بذكرى استقلال بلاده.. القيادة تهنئ ملك الأردن بنجاح العملية الجراحية    الهلال يعبر الوصل بثنائية.. ويتصدر النخبة الآسيوية    استعرض معهما العلاقات الثنائية وسبل تعزيزها وتطويرها.. ولي العهد يبحث مع وزيري خارجية روسيا وأمريكا المستجدات الإقليمية والدولية    مجلس الوزراء برئاسة ولي العهد: استضافة المحادثات الأمريكية- الروسية تعزيز للأمن والسلام في العالم    نقل تحيات القيادة الرشيدة للمشاركين في المؤتمر العالمي لسلامة الطرق.. وزير الداخلية: السعودية حريصة على تحسين السلامة المرورية بتدابير متقدمة    «البعوض» يساهم في فك لغز جرائم السرقة    مهرجان البحر الأحمر يكشف عن مواعيد دورته الخامسة    ميزة الكتب عن غيرها    زوجة نجم تركي شهير تهدد أسرته بالحرق    "فضيلة مفوض الإفتاء بمنطقة حائل": يلقي محاضرة بعنوان"أثر القرآن الكريم في تحقيق الأمن والإيمان"    تعليمات هامة لمنسوبي المساجد خلال شهر رمضان    سماعات الرأس تزيد الاضطرابات العصبية    أمير الشرقية يكرم الفائزات بجائزة الأم المثالية    مدير الجوازات يتفقد العمل بالقصيم    منتجو أوبك+ لا يفكرون في تأجيل الزيادات الشهرية في إمدادات النفط    ولي العهد ورئيس صندوق الاستثمارات الروسي يستعرضان مجالات التنسيق بين البلدين    أمير الرياض يتسلم تقرير جامعة المجمعة.. ويُعزي السليم    «قصر الدرعية» رمز تاريخي وشاهد سلام عالمي    الإمارة و«ملكية الرياض» تنظمان فعالية يوم التأسيس    «ملكية العُلا» تطلق أول أكاديمية للتعلم مدى الحياة    أمير المدينة يتفقد مستشفى الحرس.. ويلتقي أهالي المهد    سعود بن خالد الفيصل كفاءة القيادة وقامة الاخلاق    الملك يرعى مؤتمر "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية"    «إغاثي الملك سلمان» سلامةٌ وغذاءٌ في أربع دول    طبية الملك سعود تختتم «المؤتمر الدولي السابع للأورام»    محافظ محايل يتفقد مشروع مستشفى الحياة الوطني بالمحافظة    في افتتاح كأس نخبة الطائرة للسيدات .. النصر يتغلّب على الفيحاء    ما أشد أنواع الألم البشري قسوة ؟    توقيع اتفاقية إنشاء مشروع Nexus الغدير التجاري الفندقي المكتبي بقيمة تتجاوز المليار ريال في معرض ريستاتكس 2025    ميلان يودع «أبطال أوروبا» بعد التعادل مع فينورد في الملحق المؤهل لدور ال16    لموسمين على التوالي.. جدة تستضيف الأدوار النهائية من دوري أبطال آسيا للنخبة    الاتفاق يتعادل إيجابياً مع القادسية الكويتي في أبطال الخليج    جدة تشهد الأدوار النهائية من دوري أبطال آسيا للنخبة    السعودية تضيء سماء السياسة الدولية بجرأة    مصر كلها حاجة حلوة    ما هكذا يورد الطيران يا توني!    قطار تنمية الرياض !    المملكة تجدد دعوتها لإصلاح مجلس الأمن ليكون أكثر عدالةً في تمثيل الواقع الحالي    (ساهر).. مُقترحات نحو تطبيقٍ أفضل    المحادثات الروسية - الأمريكية.. والحليف السعودي للسلام والتنمية    نائب أمير منطقة مكة يطلع على جاهزية الخدمات المقدمة لضيوف الرحمن برمضان    المسلم يحول رواياته إلى أفلام سينمائية ودرامية    فيصل بن مشعل يرعى تخريج 12 ألف من جامعة القصيم    تحت رعاية خادم الحرمين.. رابطة العالم الإسلامي تنظم النسخة الثانية لمؤتمر «بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية» في مكة    «ملتقى طويق للنحت» ينطلق بمشاركة 30 فناناً من 20 دولة في الرياض    أمير المدينة يلتقي بقائد القوات الخاصة للأمن والحماية    نائب أمير حائل يزور مقر الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام "رفاق"    مجلس الوزراء يقر نظام النقل البري على الطرق    أدوية باركنسون تنقص الحديد    حبة البركة تخفض ضغط الدم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدل المعرفي والجمالي في شعر محمود قرني
نشر في الحياة يوم 17 - 02 - 2013

يمثل الخطاب الشعري للشاعر المصري محمود قرني وعياً جديداً بالقصيدة العربية، وسعياً جمالياً لصوغ مختلف لقصيدة النثر، بما تحويه من تنوع وفرادة، ومحاولة دؤوبة لمغادرة السياقات القديمة كلها. وبما يعني مغادرة الجُبن العقلي، والاستسلام للجاهز، والموروث، والقبلي؛ ولذا يحوي نزوعاً معرفياً خالصاً، يطوعه في خدمة الجمالي، فيدعمه. غير أنه في ديوانه «لعنات مشرقية» (دار «الأدهم» - القاهرة)، يمد الخيط على استقامته ويصل بالتجربة إلى عنفوانها، وبالنص إلى ذروته، بخاصة حين يتواشج المعرفي مع الجمالي، فيسعيان معاً نحو صيغة جديدة لقصيدة النثر، يتسع فيها مفهوم الذات الشاعرة تجاه «التراث»، الحاضر هنا بوصفه منتجاً إنسانياً، خاضعاً للمساءلة، والمتجلي عبر ارتحال قلق في الزمان والمكان الشعريين.ثم يتسع مفهومه، ويتخذ صبغة إنسانية، فتتجاور «ألف ليلة وليلة» و «الديوان الشرقي»، كما يحضر آخر ملوك الأندلس، أبو عبدالله الصغير، وغوته، وطاغور، وأبو إسماعيل الطغرائي، وبورخيس، وقتيبة بن مسلم الباهلي، ومن قبلهم «الورد في الأكمام». ويبدو أفق الحكاية التراثية مغلقاً، ومحدوداً في نهاية المطاف، ولذا فإن الشاعر لم يمارس لعباً في فضاء الحكاية الأسطورية، لكنه مارس لعباً مع الأسطورة ذاتها، ومن ثم خرج من حيزها المألوف، ومسارها المحدد سلفاً، إلى أفق إنساني أكثر براحاً، صانعاً لعباً فنياً دالاً مع الأسطورة من جهة، وخالقاً مساحات أوسع من التخييل الشعري من جهة ثانية.
في «لعنات مشرقية» يمكننا أن نشير إلى شعرية التصدير: «يا وجه الأحباب/ إن أصبهان بلادي/ ولي فيها بنتُ عم كنتُ أحبها/ وكنتُ متولعاً بها»، فتشي العلاقات الحاضرة بين الجمل الشعرية بوعي حاد في التعاطي مع الانتقالات ما بين جزئيات المتن الشعري، إذ نرى البدء بالنداء أولاً، ثم التوكيد، ثم حضور الجملة الخبرية، ثم الأخرى المفسرة.
ويبدو اللعب الفني حاضراً منذ المفتتح الشعري، ففي المقطع الأول من الديوان/ القصيدة، ثمة خروج عن المسار المألوف للحكاية التراثية، والاتكاء على علاقات تضرب فيها السببية، والمنطقية تماماً، في إطار فانتازي دال يسم نص محمود قرني، ويجعلنا أمام توسيع مُعبّر لمعنى الحكاية التراثية، وصبغها بطابع دلالي أعمق يحوي طبقات مختلفة من المعنى، فيصبح التراثي مطوعاً لخدمة الجمالي، ويصبح البدء بالماضوي عنواناً على نص قرر الارتحال في الزمان والمكان الشعريين.
وما بين «الورد في الأكمام»، ابنة ألف ليلة وليلة، وبورخيس مثلاً، ثمة جسور تعبّد الطريق قد نتلمسها في غوته أو طاغور، لنصبح في «لعنات مشرقية» أمام شعرية خاصة تخلق ضفافها البعيدة، وتتيح لمتلقيها مساحات أشد من التخييل، طامحة في أن تصبح جدارية عن مسلك الإنسان وأزمته في عالم معقد، وقاس، وموحش، تبدو فيه «ورد الأكمام/ الملاكة/ الأميرة»، حلماً مراوغاً تبتغيه الذات الشاعرة، لكنها لا تطاوله في ظل عالم مملوء بالإخفاقات، وفي تكريس أشد قسوة لحال من الإخفاق بشقّيه المادي والمعنوي، وبمدلولاته المفضية إلى اغتراب ذاتي يفشل فيه المرء في أن يكون ما يريده، غير أن ثمة نداهة للُقيا، ورغبة عارمة في تخليق منجز ثقافي/ إبداعي/ شعري، يستند إلى خصوصية جمالية عربية، على تماس في الآن نفسه مع طروحات ما بعد الحداثة، بخاصة في اعتمادها التجاور صيغة أساسية لها.
المدى التراثي
ثمة بنيات أساسية في ديوان «لعنات مشرقية»، يعتمد أولها على توسيع مدى التراث والتعاطي معه بوصفه منجزاً إنسانياً قابلاً للمراجعة والتساؤل دوماً، بل وبالأحرى للمساءلة، وبما يعني أننا أمام كتابة تتخذ موقفاً تقدمياً من العالم، لا من حيث الإطار الذي تتبناه فحسب قصيدة النثر، ولكن أيضاً من حيث المدلولات الحاضرة داخلها، فكم من قصائد نثرية مكتوبة – ويا للأسف – وفق منطق النهنهات العاطفية، والنظر القديم إلى العالم، والأشياء.
ثمة منطق ديموقراطي في القصيدة، ووعي بالنسق البوليفوني داخلها، إذ نرى حواريات شعرية مدهشة، تأخذ نزوعاً درامياً، بما يجعلها طازجة حيوية من جهة، وغير معطلة لآليات الحكي الشعري من جهة ثانية: «في غرفة النوم تحدثت الأميرة إلى حكمائها/ قال حكيم:/ تخيري نجماً/ نبعث في طلبه مع المسافرين/ وسأدفع له ما يريد/ قال آخر: لا تنشغلي بالموتى الذين انحشروا/ في جوف السهل/ ولا بهؤلاء النائمين مثل جرة فارغة... وقال الثالث:/ معذرة أيتها الملاكة/ لا أكاد أشعر بشيء مما تقولين/ لقد سُرق قلبي في حادث سطو/ لا بد أن أستشير طبيباً» (ص 6).
«النهايات المدهشة»
ثمة حضور لما أسميه «النهايات المدهشة» للمقاطع الشعرية داخل الديوان، والتي تساهم في كسر أفق التوقع لدى المتلقي: «عما قليل/ ستأتي التفاحة وهي تتمشى/ في صحبة عشيقها/ وسيأتي قارب العشاق/ ليأخذ حصته من الألم» (ص 8).
في «لعنات مشرقية» نرى تحولات في صيغ الحكي الشعري ما بين توظيف متعدد للضمائر الثلاثة: المخاطب (أنت) والمتكلم (أنا) والغائب (هو)، وهذا التنوع ليس محض انتقال ما بين صيغ نحوية، ولكنه تعبير عن زوايا نظر مختلفة إلى العالم، وبما يؤكد ما ذهبت إليه من حضور واعد للمنطق الديموقراطي للقصيدة في هذا الديوان: «يا سيدتي/ أنتِ أخت النجوم/ ورفيقة الملائكة/ وهذا لوز أبيكِ/ أنا الخادم/ الذي أتى إلى هنا/ بعد أن فقد أهله ونام في العراء/ أنا الديك الذي يمشي على الأعراف.../ فتقول الملاكة: أيها الديك أسمعني صياحك/ فيقول لها: سيكون لك ذلك/ أمهليني فقط إلى الغد/ وسوف أحضر معي منقاري» (ص 10، 11).
في «لعنات مشرقية»، ثمة شعرية تسعى إلى خلخلة البنى القارة، وتقويضها، ومساءلة جمالية لذلك السائد، والمألوف، بحيث يبقى الشعر منفتحاً على الحرية، ومسائلاً القمع، والاستبداد، وساعياً في الآن نفسه إلى نزع الأقنعة، وكشف الزيف الكامن فيها: «في القصر الوحيد الذي يقطع فراغ التلال/ تحدثت ورد الأكمام إلى قطعة من ضوء غرفتها/ وعندما لم يجبها أحد/ طلبت حكيماً في السيمياء/ وآخر في الفيزياء/ الأول بدأ حديثه عن الضوء/ كسمت من سمات الإيمان/ غير أن كلباً صغيراً قفز أعلى ظهره/ وأطاح بعمامته/ فارتج عليه/ ولم يعد بعدها إلى الكلام» (ص 15).
وتظهر «ورد الأكمام/ الملاكة»، بوصفها تعبيراً عن ذلك الارتحال القلق في التاريخ، إنها تصاحب مثلاً القائد حين يمضي بثبات صوب سمرقند، وبخارى، بل وتمنحه نصحها الرشيد: «ضع الحافر على الحافر/ ولا تكن بطيناً/ وإذا وصلت إلى هناك/ لا تجعل الأرض أرجوحة» (ص 18).
في الديوان فجوات زمنية، يكمل القارئ فراغاتها النصية، فيصبح شريكاً في إنتاج الدلالة الكلية للنص، كما في المقطع التاسع، حيث القفز من الماضي إلى ذلك الراهن المعبأ بانفجارات قابلة للتكرار، والمسكون أيضاً بالألم المحض، مع صبغه دوماً بطابع فانتازي تخييلي: «تلك الأميرة التي هربت من إخوتها/ قبل أن تداهمهم الآلام/ ويحل بمركبهم العطب/ كثيرون منهم الآن يتعلقون بخشبة في جوف المحيط/ وآخرون يترأسون قبائل/ عميقة الأثر في حياة أممهم» (ص 22).
تنحو بعض المقاطع الشعرية إلى أن تشكل محاكاة تهكمية للواقع المعيش: «... وهناك آخرون يتاجرون في السلاح/ دفاعاً عن الأغطية الوثيرة لشعوبهم/ الملصقات الدعائية تملأ الشوارع وترصد الإنجازات/ رغم أنهم ليسوا في حاجة إلى ذلك/ بالأمس وصلت برقية من إخوتهم/ المتعلقين بخشبة في جوف المحيط/ يطلبون المساعدة/ وقد وعد القُواد ببحث الأمر/ عند عودتهم من الإجازة الصيفية» (ص 23).
ما بعد الحداثة
في المقطع الثالث عشر يتجاور غوتة مع إسماعيل الطغرائي، في توظيف دال لإحدى أهم سمات ما بعد الحداثة، وأعني التجاور، لا التنافر، مع الوعي الحاد لدى الشاعر لخلق صيغة جمالية عربية تخصه، بنت (الآن/ وهنا)، وبنت ناسنا، وحيواتنا، في انفتاح دال على المنجز الحداثي الغربي، وتماسه معه. ويصبح التطواف في التاريخ دالاً على شعرية يمثل التخييل مركز الثقل داخلها، وتمثل الانتقالات في ما بينها أطراً معرفية وجمالية تبدو بمثابة بحث أصيل عن مداخل شعرية جديدة للقصيدة. وذلك كله في نص يبدأ ببورخيس، وعلامته هنا «العجوز الأعمى»، وتتجاور فيه أمكنة مختلفة (ريور دي جانيرو/ الآن) و (توليدو/ الماضي المثقل بالجراح)، ويحضر فيه طارق بن زياد، وأيبيريا بسهولها، وتبقى «ورد الأكمام» الحلم مصاحبة للرحلة، وكأنها صوت التاريخ المقموع، المنسي، والمسكوت عنه في آن: «العجوز الأعمى/ الذي أفنى عمره في المكتبة الوطنية/ في ريودي جانيرو/ يقلب أوراقه الصفراء/ بحثاً عن فساتين ورد الأكمام/ وعن إخوتها/ الذين أغلقت شواربهم بوابات القصر...» (ص 79، 80).
في «لعنات مشرقية»، نحن أمام (نص/ قصيدة) مسكون بالمثاقفة، واع بمحاولة صنع تفاعل ندي ثقافي ما بين السياقين (الشرقي والغربي) معتمداً آليات التجاور والمساءلة والحس العميق بالعالم والأشياء. هنا يتجادل المعرفي مع الجمالي، غير أننا نظل دوماً أمام منحى أصيل للبحث عن صيغة جمالية تخص محمود قرني، صاحب المشروع الإبداعي المائز بتراكماته الجمالية، وانتقالاته الكيفية، المنبئة عن شاعر يحمل صوته الخاص، فلا يستعير أصابع أحد، بل يبدو بوصفه أحد أهم المعبرين الآن عن الشعرية الجديدة، والممثلين لأحد أهم التنويعات في مسيرة قصيدة النثر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.