على وقع السنة الانتخابية العراقية ومع انحسار النزاع الشيعي - السني وتراجع العمليات الإرهابية لتنظيم القاعدة وغيره من حركات «المقاومة»، سواء «الشريف» منها أو غير الشريف، أخذت حكومة نوري المالكي في العزف على مختلف الأوتار الداخلية والإقليمية المناوئة للقضية الكردية في العراق والمنطقة عامة، لتؤمّن لنفسها «شرعية» قائمة على النفخ في «البعبع» الكردي، تتيح لها إعادة إنتاج نمط حكم الزعيم الأوحد وتفرّد الحزب القائد في عراق ما بعد صدام والبعث، الأمر الذي تقف التجربة الكردية حجر عثرة في طريقه وطريق كل المحاولات النكوصية الرامية إليه، لا سيما بالنسبة إلى القومية الكردية التي هي الآن دستوريا شريك أساسي في العراق الجديد الذي يشهد محاولات جدية للانقلاب عليه بما هو دولة ديموقراطية فيدرالية ثنائية القومية إلى دولة مركزية أحادية القومية لا ترى في الديموقراطية إلا صندوق الاقتراع. هكذا، بدلا من أن تعمد حكومة المالكي إلى استثمار التحسن الأمني وخفوت العنف الطائفي لإطلاق عملية بناء وتنمية شاملة وتكريس أجواء الوحدة والمصالحة الوطنيتين، يتم استحضار الخطاب القوموي العنصري الذي لطالما كان معتمدا في التعاطي مع القضية الكردية منذ تأسيس الدولة العراقية، بل التمهيد حتى لترجمة هذه التوجهات الارتكاسية إلى ممارسات استبدادية منافية للواقع العراقي الجديد ولأبجديات الدستور الدائم الذي ينظم العلاقة بين الحكومتين الإقليمية الكردية والاتحادية العراقية ويشرعن التجربة القائمة في إقليم كردستان. وتكفي الإشارة هنا إلى مساعي المالكي لتأسيس مجالس إسناده العشائرية في إقليم كردستان عبر الاتصال ببعض الجهات العشائرية الكردية المتعاونة مع نظام صدام ضد الحركة الكردية إبان العهد السابق، فضلا عن محاولاته المتمادية للالتفاف على مبدأ وواقع الشراكة العربية - الكردية وتحديدا على المادة 140 من الدستور التي يشكل تنفيذها ضمانا لصون هذه الشراكة وتكريسها. ورغم حرص الجانب الكردي على عدم الانجرار إلى ردات فعل متسرعة ومتشنجة على هذه التوجهات، وحراكه السياسي العقلاني وتأكيد التزامه بالدستور لحل الخلافات مع بغداد ولاسترجاع المناطق الكردستانية المعربة، فالتفوق النسبي لقائمة المالكي في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة ربما شكل حافزا للتمادي في اللعب على وتر مواجهة «الخطر» الكردي، خاصة وأننا على أبواب الانتخابات العامة نهاية العام الجاري (التي ستفرز خريطة تحالفات واصطفافات سياسية جديدة)، وذلك لإثارة هواجس عرب العراق واستثارة عصبيتهم القومية لحصد أصواتهم عبر محاولة افتعال صراع عربي – كردي. فقد نجحت، وللأسف، النظم الحاكمة في الدول المقتسمة لكردستان، الى حد كبير، في تكريس صورة نمطية مشوهة عن الأكراد في لاوعي شعوبها لدرجة بات معها رفع لواء مكافحة الطموحات الكردية في الاتحاد الاختياري والتعايش السلمي، وبطريقة شعبوية عنصرية فاقعة، أسهل الطرق لتولي زمام قيادة الجماهير وحماية الوطن. وهنا فان القيادة الكردية في العراق مطالبة بترسيخ التحالف الاستراتيجي أكثر فأكثر بين الحزبين الرئيسيين (الديموقراطي والاتحاد). ولعل الخطوة الأهم في هذا الصدد توحيد الوزارات الثلاث (الداخلية والمالية والبيشمركة) في حكومة الإقليم والشروع في طرح دستور الإقليم على الاستفتاء الشعبي لإقراره، بما يوطد التجربة الكردية ويمأسسها ويطورها في وجه التحديات المتصاعدة حولها، والمضي في التشديد على كون الأكراد شركاء في حكم العراق. إنها، للمرة الألف، المعضلة المزمنة إياها تطل برأسها: معضلة وعي ماضوي متخشّب لدى نخب ومجتمعات مأزومة عاجزة عن الاتعاظ من تجاربها الكارثية المتناسلة. * كاتب كردي.