في عام 1915 عرض السينمائي الأميركي المؤسس دافيد وارك غريفيث فيلمه الكبير «مولد أمة» الذي يعتبر من جانب كثر من المؤرخين، اول عمل سينمائي كبير في تاريخ الفن السابع بالمعنى العلمي للكلمة. غير ان روعة ذلك العمل لم تصرف اذهان المتفرجين في ذلك الحين عن تعاطف، - رآه البعض ضمنياً فيما رأى آخرون انه واضح وضوح الشمس -، ابداه الفيلم في واحد من أجزائه، مع جماعة «الكو كلاكس كلان» العنصرية البيضاء، التي لم يتردد دون ايجاد بعض المبررات لجرائمها التي كانت الشغل الشاغل للناس في ذلك الحين والتي جعلت اول ضحاياها الزنوج المستقدمين من افريقيا والذين كانت قوانين الرئيس آبراهام لنكولن قد سعت الى تحريرهم من العبودية – كما يرينا في هذه الأيام بالذات فيلم «لنكولن» للمخرج ستيفن سبيلبرغ - لقد كانت تلك الجماعة المتطرفة تقوم بغارات وغزوات غير مبررة ضد السود وأحياناً ضد بيض يدافعون عنهم. ومن هنا حين اوجد غريفيث في فيلمه «مولد أمة» مبررات لجرائم عصابات «الكو كلاكس كلان»، استثار هذا التبرير استهجان المتفرجين والنقاد والمؤرخين الذين وجدوا ان من الطبيعي إزاء ذلك اتهام غريفيث بالعنصرية، او بالجهل على الاقل. وهو أمام تلك الهجمة التي سيقول لاحقاً انه لم يكن يتوقعها بأية حال من الأحوال، لم يجد نفسه إلا وقد انكب على عمل اراد من خلاله ان يثبت انه ليس عنصرياً وأنه فنان تقدمي يقف بعنف ضد شتى انواع التعصب والعنصرية. وهذا العمل انجزه غريفيث في العام التالي 1916 لإنجازه «مولد أمة»، وحمل عنواناً فصيحاً هو «التعصب» (أو «لا تسامح»). ومنذ اللحظة التي عرض فيها «تعصب» ظل هذا الفيلم الغريب والمدهش يعتبر صرخة عنيفة، بل اول صرخة حقيقية اطلقتها السينما ضد الداء الذي سيكون لاحقاً داء القرن العشرين، ثم وفي شكل اسوأ، احد أمراض القرن الحادي والعشرين: التعصب. الى جانب عنوانه الاساسي «تعصب»، يحمل فيلم غريفيث عنواناً فرعياً اكثر دلالة هو «المعركة التي خاضها الحب على مدى العصور». وواضح من هذا العنوان ان السينمائي الاميركي الشاب، في ذلك الحين، انما اراد ان يضع الحب في مقابل التعصب، وأن يؤرخ لمسيرة الانسانية تأريخاً يقف فيه مع الحب وضد التعصب. وهو انطلاقاً من تلك الرغبة، افرد ساعات فيلمه الثلاث ونصف الساعة (فكان بذلك اطول فيلم في تاريخ السينما حتى ذلك الحين) لسرد تلك المعركة والمسيرة، وذلك عبر اربعة اقسام خلط غريفيث فيها بين فصول من التاريخ متعددة، لكنها كلها تشكل، اذ ترتمي في بوتقة فكرية واحدة، حكاية هي نفسها، دائماً: حكاية براءة الانسانية اذ تضطر لمجابهة شر التعصب. في القسم الاول من الفيلم، نجدنا في اميركا العام 1914 حيث يطالعنا ثري ينفق جلّ وقته في التبرع للأعمال الخيرية، غير ان ذلك لا يمنعه من ان يصرف عمالاً يشتغلون لحسابه، ظلماً، ما يؤدي الى اضطرابات اجتماعية. وخلال تلك الاضطرابات العمالية الحادة التي لا يفوت المخرج ان يصوّر تعاطفه معها ومع العمال البائسين القائمين بها، يقبض رجال الشرطة على احد المضربين ويتهمونه - بتحريض من الصناعي «فاعل الخير» - بجريمة من المؤكد انه لم يرتكبها وهو بعد ان يحاكم محاكمة صورية لا يجد فيها امام عسف السلطة من يدافع عنه وينقذه، يُحكم عليه بالإعدام شنقاً، فيما تحاول خطيبته يائسة انقاذه. بعد ذلك نجدنا ننتقل مباشرة الى فلسطين ايام السيد المسيح، وتطالعنا في الفيلم هنا، معجزة عرس قانا الجليل التي يقوم بها يسوع الناصري. غير ان حبّ الشعب للسيد لا يمنع السلطات من مطاردة هذا الأخير والقبض عليه وصلبه وبالتحديد لأن السلطات الحاكمة أدركت من فورها ان تحلق الناس حول السيد المسيح يشكل خطراً حقيقياً على سلطتها ونفوذها... وبعد هذا الفصل الذي نجد فيه قمع السلطات مناهضاً لبراءة المسيح، سيرينا الفيلم تدريجاً وإذ يتعمق بعض الشيء في تاريخ تطور الدين المسيحي، أن السيد المسيح المبشّر بدين المحبة، سيكون هو المسؤول لاحقاً، ولو عن غير إرادة منه، عن انقسام المسيحيين الى كاثوليكيين وبروتستانت، ما يشكل موضوع القسم الثالث من الفيلم، حيث نجد انفسنا في فرنسا ايام الملك شارل التاسع، يوم الصراع الدامي بين الطائفتين. يومها تقرر كاثرين دي مديتشي إبادة البروتستانت. وتكون ذروة تلك الإبادة يوم عيد القديس بارتيلوميو. والفيلم يصور لنا تلك الإبادة وضروب التعصب الديني التي كانت تكمن في خلفيتها، من خلال حكاية فتاة بروتستانتية مغرمة بشاب كاثوليكي، في زمن لا يسمح بمثل ذلك الغرام، لسيادة التعصب فيه. القسم الرابع من الفيلم، وهو الأضخم انتاجاً والأروع من الناحية التقنية والجمالية، ينقلنا الى بابل في بلاد ما بين النهرين، وتحديداً الى زمن الحاكم ايام بالتازار، الذي ساد الزمن الزاهي ايامه حيث عاشت تلك المدينة الاستثنائية، ابهى لحظات ازدهارها في وضع راحت تتعايش فيها الشعوب المتنوعة والثقافات واللغات المختلفة التي تتضافر في ما بينها في «عولمة» مبكرة من الواضح ان غريفيث عبّر عنها في ذلك القسم من فيلمه من دون ان يكون دارياً أنها ستكون سمة اساسية من سمات العالم بعد ذلك بالكثير من العقود. غير ان ذلك التعايش الذي نجده في اول الفيلم ونكاد نحتفل به معتقدين انه سيعمّ بخيره وصفائه الإنسانية جمعاء، لا يروق لقورش، الملك الفارسي الذي لرغبة منه في التخلص من و «ديموقراطية» تلك المدينة الجارة التي تهدّد ديكتاتوريته، يحاصر بابل ويذبح سكانها جميعاً، ومن بينهم صبية حسناء، نشاهد معظم الاحداث من وجهة نظرها، وتجرح حتى الموت. من الواضح ان اقسام فيلم «تعصب» الاربعة هذه تقدّم لنا صورة مثالية لما اعتبره المخرج براءة الانسان في مواجهة جبروت السلطة، وتعطّش هذه الأخيرة الى التهام ضحاياها. فالسلطة، بالنسبة الى غريفيث، سواء كانت مدنية او دينية، سلطة حكم او سلطة سيطرة مادية او – وهذا ادهى – سلطة دينية او ايديولوجية، لا يمكن ان تقوم لها قائمة إن لم تدمّر الآخرين لتتخلص منهم... ولا سيما حين يكونون من الابرياء والضعفاء، إضافة الى اولئك الذين يأخذون على عاتقهم مهمة تكمن في محاولة توعية الناس. والحقيقة ان الفيلم كله إنما هو سرد لذلك الصراع الابدي الذي تخوضه السلطة، اذاً، ضد الانسان. ما يقول لنا في النهاية انه بالنسبة الى غريفيث، الضحية هو الانسان. وآن للسينما ان تقول هذه الحقيقة البديهية للمعنيين بها. والحقيقة انه إذا كان هذا الأمر وارداً على الدوام في كتابات الفلاسفة والمفكرين ونتاجات المبدعين الأدبيين منذ وعى الإنسان ذاته، في المراحل الأولى من عصر النهضة على الأقل، فإن السينما لم تكن بعد، في ذلك الحين فناً له من الجرأة والعمق، ما يمكّنه من ان يكشف في فيلم من افلامه عن اهتمام كهذا. ومن هنا دهش كثر من المتفرجين والنقاد وحتى من غير هؤلاء وأولئك من هذا الفيلم الذي بدا جريئاً في موضوعه، واضحاً في رسالته، وكذلك شديد الآنية في حقبة من التاريخ كانت قد بدأت تشهد تصاعد الأنانيات، بل حتى بروز الهويات التعصبية – التي سيصفها الكاتب اللبناني امين معلوف بعد فيلم غريفيت بمئة عام بأنها «هويات قاتلة» -. عرض فيلم غريفيث هذا للمرة الاولى والحرب العالمية الاولى ضاربة أطنابها. والناس المعنيون متحمسون للحرب، غير راغبين في اي كلام يناقض ما يعتقدون. بل نعرف ان كثراً من انصار السلام والتسامح بين الشعوب في ذلك الزمن الصعب، من الذين انطلقوا ينددون بالحرب وبالمتسببين بها، راحوا يتساقطون، سياسياً وجسدياً احياناً، ضحايا مواقفهم. ما يعني ان عرض الفيلم في ذلك الزمن مرّ مرور الكرام واحتاج الأمر الى زمن طويل تالٍ قبل ان يعاد الاعتبار الى الفيلم سياسياً وإنسانياً، والحال ان ذلك لم يتحقق إلا بفضل المخرج السوفياتي الكبير سيرغي ايزنشتاين الذي سيبكون هو اول من اعاد اكتشاف الفيلم فنياً واكتشف اهميته، هو الذي قال ان اعظم ما في السينما العالمية وما في السينما السوفياتية يدين لغريفيث وتحديداً لفيلمه «تعصب». [email protected]