أثارت تصريحات المراقب العام ل «الإخوان المسلمين» في الأردن، همام سعيد، الشهر الماضي، بشأن الأردن كدولة إسلامية الكثير من الدهشة والجدل. سعيد كان قال إن الدولة الإسلامية الصالحة بدأ فجرها يلوح في الأردن، بفعل الحراك الشعبي وتظاهرات الشارع المستمرة. مثل هذه التصريحات قد تكون مناسبة لمساءلة ما يسمى ب «الاعتدال الحركي الإسلامي»، فالإخوان، في الصورة التي تكوّنت عنهم على مدار عقود، ليسوا «القاعدة» أو «جبهة النصرة» أو السلفيين أو «طالبان»، لكن وصولهم إلى السلطة في بعض الدول العربية وانتهاء صورتهم ك «ضحية سياسية» في تلك الدول، قد يدفعنا لإعادة النظر في مسألة الاعتدال والتشدد، والتساؤل عما إذا كان ذاك الاعتدال المفترض تكتيكياً أم استراتيجياً. وما يحرّضنا على مثل ذلك التدقيق أننا لا نجد ثمة قطيعة معرفية صريحة بين «الإخوان» وغيرهم من التيارات الإسلامية الأخرى، فكلها تسعى للوصول إلى الحكم واستلام السلطة، وكلها ترى أن نفوذها في المجتمع لا يتحقق إلا بالجمع بين السلطتين الدينية والسياسية، وهو طريق للاستبداد والطغيان. فلماذا لم يخرج أيّ من القيادات المعتدلة و «الحمائم» في إخوان الأردن ليعترض على كلام همّام سعيد ويقول: الأردن بلد مسلم والناس فيه ليسوا في حاجة لإعادة أسلمتهم من جديد، وما يسعون إليه بالفعل هو دولة مواطَنة تحارب الفساد وتجعل كرامة المواطن وحريته على رأس أولوياتها. الحركات الإسلامية، التي توصف ب «المعتدلة»، لا تُقدّم حتى الآن ما يشفي الغليل، للتدليل على أنها متمايزة بالفعل، وليس جزئياً، عن الحركات المتشددة. وفيما يحرص «الإخوان المسلمون» في مصر مثلاً، على أن يكونوا مختلفين عن السلفيين، وإظهار أن الأخيرين لا يصلحون للعمل العام والحكم، وأنهم بلا خبرة سياسية، نرى في المقابل تلميحات مبطنة من «الإخوان» تقول إننا لا نريد افتعال معركة معهم، وإن الغايات الانتخابية تفرض علينا ألا نخوض صراعاً معهم، وألا نعطيهم فرصة انتخابية للمزايدة علينا في الالتزام الديني، حيث يقترن الالتزام الديني في العقلية الشعبية، في الغالب الأعم، بانتهاج التشدد وتبني المواقف القصوى والحلول الخلاصية! مثل هذا السلوك يقترب من ميكيافيلية تقدّم صورة عن «نفاق أيديولوجي» تمارسه الحركات «المعتدلة» في تعاطيها مع الأفكار والمواقف الإسلامية المتشددة، سواء كانت من السلفيين أو «القاعدة» وغيرهم. وبرغم دعوات الكثيرين للمعارضة السورية، وفي قلبهم الإخوان المسلمون، إلى عدم تأجيل رفض «جبهة النصرة» وعدم توفير غطاء لها، بحجة وحدة صف الثوار والساعين لإسقاط النظام السوري، فإن تلك الدعوات لم تلق استجابة تُذكر، وهو ما يزيد شكوكنا في غياب القطيعة المعرفية بالفعل. وحين قُتل قائد لجان المقاومة الشعبية في فلسطين جمال أبو سمهدانة بغارة نفذها الاحتلال الإسرائيلي عام 2006، أقامت «حماس» حفلاً تأبينياً للشهيد، وأثار تساؤلي فيه حينها لماذا تم وصف أبو سمهدانة ب «زرقاوي فلسطين»، مع أن الحكمة تقتضي أن تتبرأ «حماس» من طائفية أبو مصعب الزرقاوي وفكر العنف الأعمى والإرهاب الذي تبناه. لكن على العكس، وبرغم أن خط «حماس» و «الإخوان» مختلف عن «القاعدة»، فالالتباس يبقى في ظل تحاشي المواجهة الفكرية، بحجة الخوف من «خسارات جماهيرية» كضريبة لمثل هذا الوضوح. والتمايز الفكري والابتعاد عن المواقف الملتبسة و «النفاق الأيديولوجي» من شأنه أنْ يعزز فكرة تنوّع أنماط التدين وترسيخ مسألة الحرية الفردية، ومن ضمنها حرية التدين، التي تقوم على أساس أنه لا سلطة دينية في الإسلام، وأن أفكار الإسلاميين، على اختلاف ألوانهم، إنما هي مقاربات واجتهادات لا تتماهى مع الحقيقة الدينية، التي لا يستطيع أحد أن يدّعي أنه يمثلها أو يحوزها أو ينطق باسمها. مجتمعاتنا العربية ما زالت في حاجة للنظر إلى الاعتدال بقدر أكبر من التقدير، وعدم المماهاة بينه وبين التنازل عن المبادئ، ما يعني أنّ هذا الاعتدال ما زال يفتقد إلى المؤسسات والكيانات والقوانين والأنظمة التي تحميه وتحرسه وتكرّسه. والحيلولة دون تلك الهشاشة لا تتحقق إلا بوضع معيار جوهري في الحكم على الأفكار والمواقف والأحزاب والحركات والفاعلين في المجال العام، وهذا المعيار هو: المضمون الديموقراطي الذي تنطوي عليه أي فكرة، أو موقف، أو شخص، أو حزب أو دولة، فنحن مع أيّ كان ما دام لا يحتكر الحقيقة الدينية أو الوطنية، ويحترم حرية الإنسان وكرامته وحقوقه، وضد أيّ كان لا تتغلغل حرية الإنسان ومساواته في فكره وخطابه من دون التباس أو استثناءات أو ذرائع أو تأجيل. * كاتب أردني