لنتصوّر هذا المشهد: يفتح الطفل عينيه صباحاً فيرى من حوله رجلين، أحدهما يحمل قنينة الحليب مؤدياً شخصية الأم والثاني يقف قربه ينظر إليه بعيني الأب. الطفل سيصاب بحيرة شديدة، وغريزته البريئة لن تساعده على إدراك أمه من أبيه ما دام كلاهما رجلين، إلاّ إذا تنكر الرجل - الام بزيّ إمرأة، وهنا الكارثة. أمومة مزيفة أو مزورة وأبوة لا تحمل سمات الأب. هذا المشهد المريب يمكن قلبه، فتحل محلّ الرجلين امرأتان، إحداهما تؤدي شخصية الأم والأخرى شخصية الأب... وهلمّ جرّاً. ليس هذا المشهد من صنع المخيلة، بل هو سيُعمم قريباً في الصحف وعلى الشاشات الصغيرة في «ريبورتاجات» تلاحق قضية الزواج المثلي الذي سمحت به بريطانيا أخيراً وبعدها فرنسا التي تشهد الآن سجالاً ثقافياً حول هذا الزواج قبل إقراره رسمياً، وهو أصبح وشيكاً، ناهيك عن بلدان أخرى أخذت به من غير ضجيج أو ضوضاء إعلامية. قد لا يكون الزواج المثلي بذاته هو القضية الأشد إشكالاً وإنما ما سينجم عنه من كارثة مزمعة على الوقوع لا ريب، وهي السماح للمثليين المتزوجين بتبني الاولاد أو إنجابهم في طريقة «مبتسرة»، كأن تحمل إحدى المرأتين مثلاً من رجل غريب وتضع طفلا يكون بأمّين ظاهراً وبلا أب، أو أن ينجب أحد الزوجين المثليين من امرأة غريبة فيأخذ الطفل ليصبح بأبوين ظاهراً وبلا أم. أليس في هذه البادرة قضاء على مفهوم الأمومة ومفهوم الأبوة اللذين لا يمكن أن تقوم حياة من دونهما؟ يصعب فهم إصرار المثليين الذين باتوا يتمتعون بحقوقهم «المفترضة» في بلدان عدة من العالم، على عقد زواج هو غير طبيعي ومصطنع أو مفتعل وأقرب إلى «الصرعة». هل هم مقتنعون حقاً بالزواج القائم على عقد رسمي يكون في أحيان حقيقياً وعاطفيا و«مقدساً» بحسب بعض الاديان، وفي أخرى نفعياً أو «ملفقاً» ومبنياً على مصلحة؟ أليست المساكنة هي الحل الامثل لمثل هذه «الحالة» التي تظل شاذة وغير سوية مهما حظيت من تأييد و«مباركة» أهلية واجتماعية؟ أليس سجن المساكنة المثلية في إطار «المؤسسة» هو تدجين لها وقتل لحريتها وإلغاء للهامش الكبير الذي تتنعم به؟ هل يمكن هذه المساكنة التي باتت تجذب العشاق والمحبين الطبيعيين في العالم مبعدةً إياهم عن الزواج الرسمي، أن تصبح زواجاً حقيقياً في حسبان المثليين، ما دام هذا الزواج ناقصاً ومجتزأ وخارجاً عن المعقول والمألوف؟ لست مصلحاً إجتماعياً ولا واعظاً ولا داعية ولا صاحب نظريات في الاخلاق، وأعلم كل العلم، أنّ ما يحصل في بريطانيا وفرنسا وسواهما من حركات تحرر تفوق التصور، لا يعني العالم العربي مباشرة، على رغم بروز ظواهر مثلية فيه، مازالت مقموعة ومضطهدة وخارجة على «القانون» في نظر السلطات جميعاً، الدينية والسياسية والاجتماعية... في الغرب أصبحت المثلية حالة شبه طبيعية، معلنة وغير سرية، يعترف بها القانون ومعظم السلطات. الغرب غرب في هذه المسألة وسواها طبعاً، مثلما أن عالمنا العربي هو عالمنا في هذه المسألة وسواها أيضا ولو أنّ زمن العولمة يكاد يلغي التخوم بين ثقافات العالم وحضاراته. لكنّ المأساة التي لا يمكن الغض عنها تتمثل في هذا القتل المجازي الاشد فتكاً من القتل الحقيقي الذي يُمارس في الغرب ضدّ الانسان وإنسانية هذا الانسان. قتل للروح مثلما هو قتل للجسد. قتل للوعي والمخيلة، قتل للوجدان والذاكرة، قتل للتاريخ الروحي للأنسان ومستقبله. لا تهمني هنا مسألة الاخلاق الفردية أو العامة، فأنا لست مخوّلاً إدانة أحد، وعليّ أن انظر الى الخشبة التي في عيني قبل النظر الى القشة التي في عين الآخر، أخاً كان أم خصماً. ولعل كل الاصوات التي تدين بقسوة - وتعاقب - مثل هذه الظواهر المنحرفة عن «الاصول» في عالمنا العربي يجب عليها أن تراعي أوضاع المثليين والمشكلات التي يعانونها، ساعية الى احتوائهم. فالانسان حر بروحه كما بجسده ما دام لا يؤذي أحداً. ويذكر اللبنانيون جيداً كيف انقض الأمن العام اللبناني قبل فترة على جمع من الشبان في إحدى الصالات السينمائية وجرّهم الى المستشفى وأخضعهم بوحشية لما سمّي «الفحص الشرجي» المهين والمذل. هذه الحادثة الاليمة سجّلها التقرير الاخير لمنظمة حقوق الانسان كمأخذ سيئ على الدولة اللبنانية. ومعروف أن الامن سائب في لبنان خطفاً واعتداءً على المواطنين والجيش وانتشاراً للسلاح غير الشرعي... لكنّ الامن العام لم يجد إلاّ هؤلاء الشبان ليسوقهم الى «مقصلة» الاخلاق. سننتظر وقتاً طويلاً لنصدّق خدعة الزواج المثلي مهما شاهدنا غداً من مثليين يتزوجون أفراداً وربما جماعات، على الشاشات الصغيرة. هذا مشهد لا يمكن التآلف معه، ما دام إنساننا يؤمن بالجمال والحق والخير، ما دام يقاوم بشاعة العالم الحديث وماديته وانحرافه عن معنى وجوده. * توضيح من مكتب شؤون الإعلام في الأمن العام اللبناني حول مقال الزميل عبده وازن «فضيحة أم كارثة»؟