تربية العائلة ليست بالأمر السهل في معظم الأحيان. لكنها في المهجر، في دول الغرب تحديداً، تبدو محمّلة بأثقال مضاعفة، خصوصاً بالنسبة إلى الأهل الذين يجدون أنفسهم في مواجهة تقاليد تبدو «عادية» بالنسبة إلى أبنائهم وبناتهم الذين وُلدوا وترعرعوا في بلدان المهجر، إلّا أنها تبدو غريبة عمّا تربوا هم عليه في أوطانهم الأم. أمل وسامي زوجان لبنانيان مقيمان في بريطانيا منذ سنوات ولديهما ابنة في الثامنة من عمرها وابن في الخامسة من عمره. الطفلان يعودان يومياً من المدرسة «محملين» بكمّ من الأسئلة التي تتطلب من والديهما الإجابة عنها. «you have a girlfriend» تسأل الأخت أخاها مشيرة إلى «صديقته» في الصف والبالغة خمس سنوات أيضاً. كلمة girlfriend أو boyfriend، بريئة بالنسبة إلى الطفلين اللذين يتداولانها مع رفاقهما في المدرسة. ولكنها تطرح أمام أهلهما تساؤلات حول طريقة تربية الطفلين وشرح «ما يجوز» و «ما لا يجوز» لهما، في شكل «متوازن» لا يجعهلما معزولين تماماً عن المجتمع الذي ينشآن فيه، ولا يجعلهما في الوقت ذاته منغمسين كلياً في تقاليده بحيث ينسيان تقاليد المجتمع الذي أتى أهلهما منه. اسئلة محرجة والتحدي الذي واجه أمل وسامي أخيراً، تمثّل بعدم قدرة الأب على الرد على سؤال ابنته البسيط عمّا إذا كان ال «شاب» الذي دخل القطار، وهو يضع مساحيق تجميل على وجهه وعينيه وحلقاً وأساور ويرتدي «تنورة» قصيرة «شاباً» أم «امرأة»؟. قال لها إنه شاب يتصرف كالنساء، مضيفاً أن هذا التصرف ليس «طبيعياً». لم يعرف في قرارة نفسه هل هذا الجواب هو الصحيح، كما أنه لم يعرف ما إذا كان القانون البريطاني يمنعه في الحقيقة من أن يقول أن تصرف الرجل كالمرأة أو المرأة كالرجل «ليس أمراً طبيعياً». لم يكد «اختبار» الشاب – المرأة في القطار يمر بسلام حتى وجدت أمل نفسها أمام «اختبار» آخر. جارتها الإنكليزية كاثرين حامل بطفلها الأول، وقد شعرت بسعادة حقيقية لها كونها باتت في الرابعة والأربعين من عمرها وهي الوحيدة في عائلتها التي تستعد لإنجاب طفل. فأخوها وأختها لم يتزوجا بعد، وأبوها وأمها بلغا سناً متقدمة ولا شك في أنهما سيكونان بالغي السعادة بمجيء حفيد أو حفيدة لطالما اعتقدا أنه ربما لن يأتي أبداً. لكن أمل لم تعرف كيف تجيب ابنتها الصغيرة سارة عندما سألتها عن «أب» الطفل الموعود. فكاثرين ليست متزوجة، لكنها حامل من صديقها آدم. ليس في ذلك مشكلة بالطبع في المجتمع البريطاني، لكن الأم اللبنانية خشيت أن «تتعلّم» ابنتها الصغيرة أن «الحمل» بين صديق وصديقة «أمر عادي». فقالت لها إن كاثرين وآدم متزوجان. والحقيقة أن الحكومة البريطانية نفسها بدأت مع مجيء حكومة المحافظين والديموقراطيين الأحرار إلى السلطة عام 2010، حملة لتشجيع «الزواج» بصفته الوضع الأمثل لبناء عائلة ينمو في كنفها الأطفال. وعبّر رئيس الوزراء المحافظ ديفيد كامرون بنفسه عن تفضيله خيار الزواج، مشجعاً البريطانيين على سلوك هذا الطريق لبناء عائلة. بدا موقف كامرون مختلفاً تماماً عن موقف رئيس حكومة الظل زعيم حزب العمال إد ميليباند الذي كان اختار خيار «المساكنة» مع صديقته جاستين وكوّن معها عائلة من طفلين (صبيين)، قبل أن يقررا الزواج العام الماضي. لم يتزوج ميليباند بالطبع نتيجة حملة حكومة غريمه كامرون لتشجيع الزواج، بل نتيجة اقتناع ذاتي. لكن أرقاماً رسمية بريطانية أُعلنت قبل أيام توحي بأن سياسة الحكومة لتشجيع الزواج تواجه خطر الفشل، في ظل اتجاه البريطانيين أكثر فأكثر نحو إقامة ارتباط بين شريكين عوض الزواج، ما يعني أن مزيداً من الأطفال سينشأون في ظل أم أو أب غير متزوجين. نوعية جديدة من العائلات وكشفت أرقام أعلنها «مكتب الإحصاءات الوطني»، الأسبوع الماضي، أن في عام 2011 كان في بريطانيا 17.9 مليون شخص يؤلفون «عائلات»، من بينهم 7.6 مليون شخص يعيشون في ظل «زواج» أو «شراكة مدنية» لكنهم بلا أطفال، في حين كان هناك 4.5 مليون شخص لديهم أطفال تحت سن السادسة عشرة من العمر. ويقول مكتب الإحصاءات إن نوعية العائلات التي لديها أطفال «تغيّرت في شكل كبير» بين عامي 2001 و2011، بحيث إن 62 في المئة من الأطفال يعيشون في ظل عائلة تتألف من زوج وزوجة، و14 في المئة في ظل عائلة تتألف من رجل وامرأة يعيشان في نظام «المساكنة»، و24 في المئة من الأطفال في ظل عائلة تتألف من أب أو أم يعيشان بمفردهما (قرابة مليونين). والغالبية العظمى (92 في المئة) من هذا النوع الأخير من «العائلات» تتألف من نساء يعشن لوحدهن مع أطفالهن بلا زوج، وهو وضع غالباً ما ينشأ نتيجة انهيار علاقة المرأة بالرجل، فتهتم هي بالأطفال وتعيش لوحدها معهم. لكن أرقام مكتب الإحصاءات الوطني تكشف أيضاً أن «العائلات» التي تقوم على ما يُعرف ب «الشراكة المدنية» باتت الآن تشمل 59 ألف شخص من الجنس نفسه (رجل مع رجل أو امرأة مع امرأة). وتوضح الأرقام أن هناك قرابة 8 آلاف حالة من حالات الزواج بين أشخاص من الجنس نفسه يؤلفون «عائلات» يعيش في كنفها أطفال (نتيجة التبني أو الإنجاب من علاقات سابقة). ومع تزايد هذه الحالات التي ينشأ فيها أطفال في ظل «عائلة» تضم زوجين من الجنس نفسه ليس من المستغرب، مع مرور الوقت، أن يصبح هذا الأمر «طبيعياً» أيضاً في المجتمع البريطاني. عندما قرأت أمل هذه الأرقام بدأ قلبها يخفق. فبعدما كذبت على ابنتها بالقول إن كاثرين وآدم متزوجان، خشيت أن يأتي اليوم الذي ستسألها فيه عن زواج المثليين وطريقة إنجابهم الأطفال!