سبق المؤرخ الأقدم هيرودوت في القرن الخامس ق.م. جميع الباحثين والمنظِّرين في تمييز ذهنية خاصة للعرب، قبل أن تنتشر بينهم الكتابة وقواعد اللغة، وتعرف عنهم المبادئ والالتزامات الأخلاقية. عقد بدو «سيناء» العرب اتفاقاً مع «قمبيز» الإخميني الفارسي، حيث كان يهيئ الطريق لغزو مصر الفرعونية في القرن السادس قبل بدء التاريخ الميلادي. ووصف ما فعله العرب كإجراءات لضمان تنفيذ الاتفاق. ذكر أنهم كانوا يكرسون المعاهدات بنقاط دماء يأخذونها من أكفّ المتعاهدين وينشرونها مختلطة على حجارة تفصل بينهم، مستشهدين بالسماء وديونيسوس، ويلزمون الشهود الحاضرين باحترام الاتفاق كموضوع مقدس. وعلق المؤرخ على الموضوع بقوله: «لا توجد أمة تحفظ قداسة للعهود بصدق أكثر من العرب...» (التواريخ 9:3). ولولا قيامهم آنذاك بتزويد الجيش الفارسي بالماء على ظهور جمالهم لما استطاع الفرس اجتياز صحراء سيناء واحتلال مصر في ذلك الزمن. هم أنفسهم كانوا في حال تمرد على «فرعونية» مصر، ويدعمون كل من يوصلهم إلى حريتهم. ولم تكن الصدقية في الوعود والعهود التي أشار إليها هيرودوت خاصة بالبدو المترحلين. بل قبلهم بأكثر من مئتي عام، نقرأ عن هذه الصدقية في نص من عرب أقصى الشمال، يفاخر خلاله كاتبه بأنه صادق وحكيم وعقلاني... «بصدقي وبحكمتي وبنعم لبِّي بنى أنك حاميات عزت بكل قاصيات». هذا ما كتبه ملك «قراطيبا» عزت ود في القرن الثامن قبل الميلاد. والنص مكتوب بالحرف الفينيقي الواضح في «أضنا» التركية اليوم. ولم نضف له سوى حروف المد التي لم تكن تكتب آنذاك. لم يذكر هذا الملك «المستعرب» السلطة والقوة والعنف، بل فاخر بالصدق والحكمة وحصافة العقل، وليس من أجل الغزو وإخضاع الآخرين وفق منطق عصره، بل لحماية المجتمع المستقر والحفاظ على ازدهاره. وما يكرس عروبته هو انتسابه إلى «ود» الذي كان مقدساً في «دومة الجندل»، الواحة الواقعة في الأرض السعودية اليوم، إضافة إلى عروبة المفردات اللغوية الواردة باسمه. والسؤال هو: هل كان في تلك الأزمنة «الحروبية»، من كان يفاخر بالصدق والحكمة ورجاحة العقل مثل هذه المفاخرة؟ إنها «ذهنية» إنسانية خاصة تطالبنا جميعاً بالوقوف عندها، ليس للتأمل فقط، بل لتنبيه الآخرين إلى أصالتها وقيمها المسالمة. وقراطيبا هذه كانت عامرة ومزدهرة في كيليكيا منذ ما قبل إلياذة «هوميروس» الإغريقي (416:6)، واسمها هو «قرية طيبة». وهي من المواقع العربية المهمة المنسية في سهل «كيليكيا» الواسع والمتميز بعمرانه الأقدم و «طيبته» العظيمة ذات الأبراج...! وتكشف لنا استمرارية ذهنية الصدق والحكمة هذه ما سجله المؤرخ الإغريقي «زينوفون» عن «زيَّان» ملك كيليكيا أثناء عبور الأمير الإخميني قورش الأصغر مع جيشه في بلاده، وهو ذاهب لمحاربة أخيه في نهاية القرن الخامس ق.م. لقد قام «زيّان» بإرسال أموال لقورش من أجل أجور جيشه. حمل هذه الأموال لزوجته التي كان يرافقها حراس ملكيون من كيليكيا وإسبانديا. وهي طلبت من الأمير قورش أن يريها عرضاً عسكرياً للجنود الذين كان يقودهم، وهم بعدد عشرين ألفاً من الخيالة والمشاة. فأجرى العرض وسار كلاهما كلٌّ في عربته الملوكية لاستعراض الجنود بخوذهم البرونزية... عادت إلى عاصمة بلادها قبل خمسة أيام من وصول قورش إليها. وعندما وصل هذا طلب الاجتماع بالملك زوجها «زيَّان». رفض هذا الاجتماع به في البدء قائلاً: «إنه حتى ذلك الحين لم يكن وضع نفسه بين يدي من هو أقوى منه. لهذا، هو لا يذهب لمقابلة «قورش». عندها تدخلت زوجته «إبيازا» وأقنعته، بعد أن حصلت على وعود بعودته سالماً. (أنابازس، ص 23) عندما التقيا قدم له زيّان أموالاً من أجل حملته العسكرية، وتلقى منه هدايا ملكية مع حصان بسرج ولجام مذهبين، وسيف من ذهب مع عقد وأساور ذهبية. وسمح له باستعادة الأسرى الكيليكيين أين ما وجدهم. كما وعده بعدم نهب بلاده. ليس وحيداً لم يبقَ تمنع «زيّان» هذا وحيداً في التاريخ العربي. فقد نقل لنا المؤرخ الإغريقي «سترابو» عن «أرستوبولس» المؤرخ الذي كان يرافق جيش الإسكندر في حروبه الدولية. قال: «إن العرب وحدهم على الأرض لم يرسلوا وفداً للإسكندر، بينما هو في الواقع كان يعتبر نفسه سيداً على جميع الناس، وينتظر أن يعتبروه إلهاً ثالثاً في معابدهم، إضافة إلى زوس وديونيسوس». (1:16، 11) لم يكن التمنع عن الترحيب بالإسكندر عارضاً، فقد دفعت صور أبناءها وبناتها وعنفوانها ثمناً لهذا التمنع. كما دفعت «غزة» وجودها ضريبة عن كرامتها العربية. دمّر الإسكندر غزة ولكن فيها وحدها نال جرحاً عميقاً في كتفه من سهام الغزاويين حين كان يقاوم حرقهم آلات حصاره. ويخبرنا المؤرخ «أريان» أن الغزاويين وبعد سقوط مدينتهم ثابروا على القتال كتفاً إلى كتف حتى موت آخر رجل من المقاتلين من أجل حرية وطنهم. بينما كانت غاية الإسكندر منها تذكره أن معلمه في طفولته كان يمنعه من الإسراف في حرق البخور قائلاً له: «عندما تغزو بلاداً تنتج البخور تستطيع أن تحرق منه كما تشاء». وهو ما فعله، إذ كما يذكر المؤرخ «بلوتارك» في كتابته عنه، أرسل لذاك المعلم من «غزّة» خمسمئة وزنة من البخور ومئة وزنة من «المر». كما أرسل الكثير من أسلاب المدينة إلى شقيقته وأصدقائه. (ف 25، زمن الإسكندر) لقد كان العرب وداموا عصيين على الخضوع كما عرفهم وعرَّفهم المؤرخ «ديودورس الصقلي» في القرن الأول قبل الميلاد: «لم يقبلوا في أي زمن سيداً غريبًا عليهم. فهم يحافظون على حريتهم من دون أي انتقاص. ونتيجة لذلك، لم يستطع الآشوريون القدماء ولا الملوك الميديون والفرس، ولا حتى المقدونيون إخضاعهم، على رغم استعمالهم قوات عظيمة ضدهم». (48:2) ونضيف أخيراً، وحتى الإمبراطورية الفارسية، عجزت عن فرض ضرائبها عليهم، فكان لهم امتياز بين ولايات الدولة العشرين من أوروبا وأفريقيا، وحتى الهند. هم لا يدفعون الضرائب، مع أنهم كانوا جزءاً من الولاية الخامسة. (هيرودوت، 94:3) حقّاً لم يخضع العرب لغرباء عنهم بفعل شرائع الأرض، لكن كلمة السحر المفتاح لإخضاعهم كانت عبر السماء. وقد خضعوا طويلاً للغرباء بسلطة الدين والسماء. إنما دائماً كانت لهم رسالة متميزة بين الناس. والأقدم من هذه الرسالة نقرأه لدى «هيرودوت»، حيث يذكر عن «كيليكيا» وعن ملك لها يُدعى «زيّان» أيضاً، وهو غير «زيّان» قورش، المغامر من أجل عرش الفرس. لقد أوقف كسوف الشمس عام 585 ق.م. الحرب بين الفرس والليديين، جيران كيليكيا. وكان على ملكها زيّان آنذاك أن يعمل للمصالحة بين المتحاربين. فأنجز بينهم معاهدة على السلام، كرَّسها بدماء من الفريقين، يلحس الواحد من الخصمين من دماء الآخر، تماماً كما حدث بعد ذلك في معاهدة «قمبيز» وبدو سيناء، وهو كفل الصلح مع ملك «بابل» المدعو «لباينيتس» آنذاك. ورتب ضمانات الديمومة للسلام خلال عمليات تزاوج ومصاهرة بين عائلتي الملكين. واكتمل بذلك السلام... فهل كانت هذه العملية غير رسالة أرض وسماء معاً...؟! إني من خلال أمثالها في التاريخ العربي أشاء فهم مطلع الآية القرآنية الكريمة: «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس...». (البقرة 143) كما من أمثالها أيضاً، أفهم الاندفاع العفوي لدى بعض قادة العرب الحاليين للتقريب بين المتخاصمين في أي مكان من الأرض. فجوهر السلام هو تحرير «الحرية». والحرية لقادة العرب النابهين حالياً هي في وعي مسؤولياتهم القيادية والتاريخية، خلال ذهنيّة «التمنُّع والصدقية»، على أن يكون هذا الوعي مدعوماً بنعمة «الألباب» وبالمنطق المطلوب في عالم التغييرات الجذورية المعرفية المعاصر. ومن أجل مصير مجموع بني الإنسان! * باحث في التاريخ الحضاري