تبدو أزمة بعض المفاهيم من مصطلحاتها، إذ ينشأ خلاف يصل حد الإقصاء والتكفير والمطالبة بنفي الآخر، بسبب بعض التسميات من دون تمييز للمضمون. القوانين الوضعية مصطلح يشهد تجاذباً بين أرباب الشريعة والقانون، وبين الشرعيين أنفسهم أحياناً. هل يُفهم من الأنظمة أو القوانين الوضعية، نقص في الشريعة الإسلامية؟ وهل يرفض الشرعيون الاستفادة من التجارب القانونية في الغرب لأنها وضعية، على رغم أنها تحقق العدل البشري إلى حد ما. ماذا يقبل من الأنظمة الوضعية وماذا يترك؟ وإلى أي مدى استفاد الغرب من التراث الإسلامي الذي ينشد العدل منذ البعثة المحمدية. في هذا السياق، يوضح أستاذ السياسة الشرعية في المعهد العالي للقضاء الدكتور سعد بن مطر العتيبي أن «القضية الجوهرية في إشكال القوانين الوضعية هي في مفهومها، فبعض الناس يفهم أن القوانين الوضعية هي ما تسنّه السلطة التنظيمية أو التشريعية وهذا غير صحيح» معتبراً أن المعنى الحقيقي يكمن في القوانين التي لا تلتزم بالدين مرجعاً لها، مؤكداً أن ذلك مفهوم القوانين عند المدرسة الوضعية، التي أوجدت هذا المصطلح». وأكد العتيبي في حديث إلى «الحياة» أن القوانين الفرنسية والبريطانية تلتزم بالدين كمرجعية، و قد تستفيد منه، ومن العرف أيضاً، واستشهد ببعض الدول كالدنمارك وبلجيكا وإسبانيا وحتى في بريطانيا. وأضاف: «الإشكال في بلاد المسلمين، يكمن في إبعاد الدين عن مرجعية جميع القوانين في البلاد الإسلامية، وجعل الشريعة مصدراً من المصادر فقط، وهذا غير كافٍ في التزام الشريعة الإسلامية وفق معايير الشريعة ذاتها، بل على الدول الإسلامية أن تلتزم في دساتيرها بألا تخالف الشريعة كما هو موجود لدينا في النظام الأساسي للحكم في السعودية، فهو ينص على حاكمية الكتاب والسنة على جميع الأنظمة بما فيها النظام الأساسي ذاته، فيجب خضوعها للشريعة الإسلامية، وبناء عليه يتم العمل بالأنظمة في الدولة». وأشار إلى أن الضابط في شرعية القوانين ألا تكون مخالفة للشريعة الإسلامية، ونوّه إلى أن هذا الضابط هو رأي علماء الشريعة، وأضاف: «بل إن منظري القانون الوضعي يرون أن لكل بلد هويته، والقانون يجب ألا يخالف هوية البلد، وعادة يكون القانون متشرباً بثقافة وطنه الأصلي، وبناء عليه إن أردنا الإفادة من القوانين الأجنبية فيجب علينا أن نخلّصها من الصبغة الثقافية التي تتعارض مع أحكامنا الشرعية وثقافتنا الإسلامية». وأشار إلى أن «المشكلة في إقصاء الشريعة، إذ لا يجوز الاجتهاد في القوانين الوضعية، معتبراً أن التيارات العلمانية هي التي ترفض مرجعية الشريعة، «هذا صريح جداً في خطاب من يصفون أنفسهم بالتيارات المدنية، وهذا الخطاب في جزء منه داخل في إطار العولمة عبر تيارات معينة في الدول العربية والإسلامية». وقال: «أي شيء تجد فيه نقاط اتفاق حتى في الخمر والميسر (فيهما إثم كبير ومنافع للناس)، القضية هل فيها مخالفات تتعارض مع الإسلام وشرعته أم لا، وفي القوانين الإجرائية ممكن أن نأخذ منها، لأنها خبرات إنسانية، وفي أصل المعاملات إباحة ما لم يأت دليل على تحريمها». ولفت العتيبي إلى أن هناك مخالفات في القوانين الوضعية فيما يتعلق بالجوانب الإجرائية، واعتبر كلام بعض القانونيين عن نقص الشريعة الإسلامية ناتجاً من جهلهم أو عدم فهمهم الشريعة الإسلامية أو مكابرتهم، بعكس المنصفين من القانونيين الكبار الذين يقولون إن الشريعة الإسلامية كاملة، واستشهد بما قاله عميد كلية الحقوق في جامعة فيينا: «الشريعة الإسلامية صالحة لأن تحكم أوربا ألفي عام قادم»، وأضاف أن كلامه كان انبهاراً منه بقدر تعمقه في درسها، ولكن للأسف توجد انتقائية في أخذ آراء الخصوم، وعدم أخذ رأي متخصصين، ولم تواجه الشريعة عبر العصور عجزاً، مع أن الشريعة حكمت شعوباً مختلفة، وثقافات متنوعة، وفي أزمان مختلفة». ورأى أن اعتراض الشرعيين على القانون يكمن في إقصاء القانون الوضعي للشريعة الإسلامية، ومعارضته لاعتبارها مرجعية لجميع الأنظمة والقوانين، وهذه المشكلة الكبرى موجودة الآن. ولفت إلى أن القوانين العامة المالية والجنائية والقوانين الخاصة فيها قدر كبير مخالف للشريعة، مشيراً إلى أن قوانين الأحوال الشخصية دخلها التغيير والتحريف الآن في إطار تطبيق اتفاق سيداو، الذي طبقته بعض الدول العربية من دون التزام بتحفظاتها أو من دون تحفظ. وأكد أن الأحوال الشخصية المتعلقة بالأسرة والمواريث والطلاق والوصايا، ثوابت لم يستطع الاستعمار فرضها، لأنها ترتبط بالأسرة، إذ يحذّر المستعمر من المساس بالقضايا التي تتعلق بعموم الشعب في شكل مباشر، حتى لا تقوم ثورة عليه، ولذلك تركوها واتجهوا للقوانين الأخرى، واستطاعوا تغييرها بعد ذلك».