كلما شاهدت تشنج وتطرف كثير من السعوديين في مناقشة القضايا الاجتماعية اليوم، تمنيت أن يتم تسجيل الحدث بالصوت والصورة ويؤرشف ليطلعوا عليه بعد عشرة أعوام ويضحكوا على أنفسهم، من يصدق أن السعوديين انشغلوا قبل أقل من عشرة أعوام بمعارك جدلية ضارية ولجؤوا لاستصدار الفتاوى لتحريم ومنع أجهزة الهواتف النقالة المزودة بكاميرا؟ ومن يصدق أن كثيراً من السعوديين كانوا قبل أعوام قليلة يتداولون في المدارس والجامعات والمستشفيات كتيبات وعظية تحذر من خطر تقنية «البلوتوث»؟ قبل ذلك بعقدين من الزمن امتلأت رفوف المكتبات ومحال التسجيلات الإسلامية بكتيبات حملت عناوين من نوعية «احذري التلفون يا فتاة الإسلام»، وهذه ليست نكتة على الإطلاق بل واقع يصوّر حجم دوائر التخلف التي يُجر إليها المجتمع يومياً وينجح في تجاوزها آلياً «ببركة الله» ومن دون تدخل من أحد. إن صندوق «الحرام» الاجتماعي في السعودية، شئنا أم أبينا، يستقبل كل عام عشرات «الطرائف المستقبلية» التي وإن كانت تثير سخرية العالم أجمع، فإنها لن تثير سخرية أصحابها إلا بعد سنوات أو عقود كالعادة، وهذا مقياس واضح لمدى تخلفنا عن ركب الحضارة الإنسانية المعاصرة، ويبين أن التخلف ليس في التكنولوجيا، أو تفاوت حجم غابات الأسمنت بين الدول، بل في العقول وآليات التفكير، ولعل ما يفاقم مأساة التخلف تجاوب الجهات المسؤولة مع المطالب الرجعية ومنحها كل «الشرعية»، ومثال على ذلك أن جهاز «الجمارك» في السعودية، وفي خضم الجدل قبل سنوات عن «جوال الكاميرا» صادر فعلياً تلك الجوالات من الناس في المنافذ الحدودية لفترة قصيرة قبل أن تعود مياه المنطق لمجاريها، وقد لا يعلم كثيرون أيضاً أن حقبة التسعينات الميلادية شهدت مصادرة فرق التفتيش الحكومية لأطباق وأجهزة التقاط الفضائيات من المحال التجارية التي كانت تبيعها، استناداً على فتوى بتحريمها وقرار صدر آنذاك بمنع استيرادها وبيعها! لا أشك أبداً في أن من واجبات السلطة في أي مكان في العالم أن تدفع بالمجتمع حضارياً إلى الأمام، وهذا واجب يندرج تحت بند التنمية ولا يقل أهمية عن واجب توفير الأمن للمواطنين، ولذلك فإن استجابة السلطة لقوى التخلف والرجعية، وفرض رؤية تلك القوى على المجتمع بأكمله أمر خطر للغاية، وسبب رئيس لتخلف البلاد والعباد، ولنا في موقف الحكومة السعودية من الدعوات الرافضة لتعليم النساء عند بدايته في المملكة عبرة وأنموذج للحكمة السياسية في مواجهة قوى التخلف. بين يدي قصاصة لخبر نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، بتاريخ 26 كانون الأول (ديسمبر) 1963، يشير إلى أن مجموعة من «المطاوعة» تجمعوا في ذلك العام أمام قصر الملك فيصل، رحمه الله، في الرياض، محتجين على بث صوت المرأة في الإذاعة السعودية، ومطالبين بوقف ذلك فوراً، ويضيف الخبر أن الملك فيصل التقى بالمحتجين وقال لهم إن الرسول «عليه الصلاة والسلام» كان يستمع للشاعرة الخنساء وهي تلقي الشعر، ثم سألهم: ما الذي تغيّر في صوت المرأة الآن؟ طبعاً لم يجد أولئك المحتجون إجابة للسؤال، وهو ما أسقط مطلبهم الرجعي وذهب به أدراج الرياح. [email protected] @Hani_Dh