ليست حلب اليوم وجهة سياحية، ولا هي وجهة صناعية كما كانت منذ مئات السنين، فلا صابون يروب في خاناتها، ولا قماش يُنسج في معاملها ولا زعتر ولا زيت. هي ساحة مواجهات بين ثوار وجيش، وخطف مقابل فدية، وهي أوصال مقطعة بين «مناطق محررة» وأخرى في يد النظام. لكن حلب لم تفقد جاذبيتها لزوار من نوع آخر: إنهم الصحافيون، الذين يتقاطرون إليها في رحلة عبور محفوفة بالمخاطر، حبلى بالتوقعات، فالسفر إلى حلب يبدأ قبل زمن يبدو أطول بكثير من لحظة بلوغها وعبور «باب السلامة»، بعد إسطنبول وأنطاكية وكيليس. وإذا كان أي ترحال يبدأ بتوضيب حقيبة ويتخلله عبور إلى الجهة المقصودة، يبقى أن العبور في هذا الترحال تحديداً يحمل كل ما تعرفه وما لا تعرفه عن وجهتك، فكيف تُعِدُّ تلك الحقيبة، وأنت الذي ستحملها على ظهرك وتسير بها مسافة غير قصيرة، من دون تحميلها وزناً زائداً من التجهيزات، والنصائح، و... الاخبار السيئة؟ «الثقة» ينصح صديق، أو بالأحرى «عدم الثقة حتى في ظلك»، لأن الخطف يحدث لأتفه الأسباب. نصيحة هي في الواقع ما يثقل الكاهل، لا الحقيبة، فكيف يمكن أن تقضي أياماً مع أشخاص تخشاهم صبح مساء؟ وكيف يمكن أن يغمض لك جفن وأنت بينهم؟ تتصل بزميل تركي اعتاد «العبور» وتعرض للخطف منذ شهر ثم أفرج عنه، إلاّ أنه لم يرتدع. الدخول بكلمة سر، ولا أحد يسأل إلى أين. تحاول استيضاح الزميل عن مسألة الثقة هذه، فينسفها، ويستبدلها بالسترة والقبعة المضادتين للرصاص وهاتف الثريا، قائلاً إنها جيدة للمعنويات والشعور بالأمان حتى لو لم يتم استخدامها فعلياً. حقيبة التخييم الفارغة التي اخترتها لرحلتك، تنتظر أن تقطع الشك باليقين وتبدأ بملئها، وإذا فعلت فلا تملك إلا أن تمنح ثقتك كاملة لمرافق لا تعرفه سوى عبر «سكايب» أو أصدقاء مشتركين. تضيف بعدها هاتف ثريا ودرعاً وقبعة لحفظ المعنويات، لكن المرافق -الذي قررت الوثوق به ومَنَحَك أمانَ قادة الكتائب- يرفض أن تستعمل الثريا، لأن رادارات الطائرات تلتقطه، ويطلب نزع البطارية عند الحدود، فتمتثل. هو كذلك لا يرى ضرورة للسترة والقبعة، لأنها في مطلق الأحوال لن تقي من الطائرات، الخطر الوحيد في رأيه. التقارير الإخبارية التي تتابعها لإعداد العدة لا تبشر بالخير: الافران لا تعمل بانتظام والطعام نادر. تنصحك زميلة بتوضيب معلبات التونة والسردين والأجبان، وربما يكون مفيداً إدخال بعض الخبز الطازج من تركيا، وإذا اتسع المكان في حنايا الحقيبة، فلا مانع من شاي قليل وقهوة سريعة التحضير. فجأة تجد اهتمامك ينصبّ كله على «الأمن الغذائي»، وتسقط الاعتبارات الأخرى، فيبدأ تجميع الكعك والموالح وأصناف لم تكن تستهلكها من قبل، فأمام شبح الخوف من الجوع، تصبح حتى المنامة في كيس بلاستيكي، وانقطاع الكهرباء، وشح المياه والوقود، وعدم إمكان الاستحمام... أموراً ثانوية. ويسخر مراسل تلفزيوني من ذلك، قائلاً إن الأكل والشراب وكل شيء متوافر بكثرة في المطاعم والمحال التجارية لمن يملك المال... وهكذا، الحياة مستمرة إذاً... أو بعضها. ويضيف الزميل مؤكداً وجهة نظره: «حتى جِل الشعر أشتريه من هناك، ولا أُثقِل به حقيبتي». لكنّ الحال أن تضارب الخبرات، والخيارات الشخصية المتقاطعة حيناً والمختلفة أحياناً، لا تفعل إلا أن تزيد حيرتك وتثقل وزن الحقيبة، التي تحشر فيها توقعاتك بجيّدها وسيئها وبما تستنبطه من سبل لمواجهتها: أجهزة إلكترونية، أدوية، ثياب، معلبات... وأشياء ربما لا تعرف لها اسماً وتفيض عن حاجتك، لكنها جيدة ل «حفظ المعنويات». وحده الدفء يبقى هَمَّ الأمهات، تسكِّنه بالكثير من الألبسة العازلة، التي تزيد -بدورها- وزن الحقيبة. تحمل الحقيبة الزاخرة على ظهرك وتختم جوازك في الجهة التركية لمعبر السلامة وتمشي، وما هي إلا دقائق حتى يستحيل كل ما خطَّطْتَ له هذياناً بلا طائل، ذاك أنه لا استعداد لوجستياً أو معنوياً يحميك من هذا الانقباض الذي ينتابك لدى قراءة لافتة الحدود: أهلا بكم في سورية الحرة!