رغم أنّه ولد ميتاً، أو ربمّا لأنّه ولد ميتاً، سوف يترك القانون الأرثوذكسي وحملات التهييج الطائفي والعنصري التي واكبت عملية طرحه أثراً عميقاً وشرخاً واسعاً، قد يصعب تخطّيهما في المستقبل القريب أو البعيد. وبغضّ النظر عن القانون الذي سينظّم الانتخابات المقبلة، أظهر «شهر الجنون الطائفي» أن النظام اللبناني بات في عداد الموتى، لم ينج من استقواء البعض بالسلاح والبعض الآخر بالثورات وتخلي الجميع عن الصيغة والميثاق. قد لا يُدفن النظام بعد، لصعوبة تنظيم مراسم التشييع وتقسيم الإرث المشترك، بيد أنه أصبح واضحاً أن لا أهل للفقيد وقد لا يكون هناك معزون به. فالنظام اللبناني كذبة كبيرة لا يصدّقها أحد بعد اليوم، بل يتعايش معها الجميع ريثما تسمح الأمور بابتكار مخرج من حالة الانفصام العامة. ما عزز الإحساس بأن النظام اللبناني جثة بلا حياة ليس مسألة طرح القانون الأكثر طائفية في تاريخ لبنان القصير أو رائحة العفونة التي تتسرب من كل مؤسسات الدولة فحسب، بل صعوبة أو حتى استحالة الرد على هذا القانون، أو حملات العنصرية المتكاثرة التي باتت تطاول الجميع. فقد توزعت موجة ردود الفعل والتحليلات التي واكبت القانون على ضفتين، قد تبدوان متناقضتين، غير أنهما تتفقان على نعي النظام اللبناني ورفض المشاركة في مراسيم تشييعه. والانقسام هذا طاول أيضاً الموقف من عرّابي هذا القانون، أي المسيحيين، الذين بات ساستهم إشارة حية إلى طائفية لبنان أو حقيقته، وفي الحالتين إلى حالة ترادف القانون الأرثوذكسي. رد الفعل الأول كان بمثابة صرخة استنكار تجاه العنصرية المتفشية والطائفية العلنية، اللتين تشكّلان النتيجة الحتمية للنظام اللبناني الملتبس والمتخاذل والركيك. فالقانون الانتخابي، كالفساد والعنف والعفونة، سببه واحد وهو طائفية النظام، والمسيحيون، في هذا المعنى، ليسوا إلاّ آباء هذا النظام ولعناته المتكررة. وعلى هذا النحو، عادت التعميمات الثقافية التي وحّدت آفات المجتمع اللبناني كانبعاث صادر عن مجموعة طائفية واحدة بات خوفها مكلفاً على البلاد. فالحل بالقفز نحو نظام أقل طائفية، أي بأن يكون المسيحيون أقل مسيحية لكي يزول الالتباس في وضوح الوطنية وتسطيح العلمنة. في وجه هذا النمط من الاستنكار، صعدت تحليلات بعض الحكماء لكي «تتفهّم» المسيحيين وقانونهم، حتى وإن كان سيئاً، كصرخة ألم نابعة من فئة مهمّشة في عالم عربي تنحسر فيه مساحات التقبّل والتسامح. هكذا عبّر المسيحيون، وإن بلغة قليلة اللباقة، عن حقيقة لبنان والمنطقة، معلنين وفاة النظام اللبناني لمن قتله. الاختلاف التقييمي بين ردي الفعل هذين يتقاطع مع توافق على الرواية التاريخية وتوصيف القانون والمسيحيين. ففي الحالتين، تبدو علاقة هذه الطائفة بانحلال الاجتماع اللبناني الممثل بالقانون الانتخابي علاقة سببية، لا مفرّ منها. المسيحيون هم النظام وانحلاله في آن، سبب الطائفية وحقيقتها، يمكن نبذهم أو تفهّمهم، بيد أنّه لا يمكن إنكار تمثيلهم ل «حقيقة لبنان» التي ستبقى، مهما حاولت الطوائف الأخرى، المسيحية الهوى. فلمحاربي العنصرية، تكمن المشكلة في مسيحية بعض اللبنانيين، التي أضفت على نظام هذا البلد بعداً طائفياً لم يولّد إلاّ الحروب والدمار. أما لعرّابي «تفهمّ» المسيحيين، فالمشكلة كامنة في لبنانية بعض المسيحيين والمسلمين، التي تعكّر وضوح الحلول الطائفية في عدم اعترافها باستحالة التعايش. بلغة أدق، المقولتان تنعيان النظام، وإن كانتا تختلفان على سبب الوفاة. فإذا تمّ تشريح الجثة، لن نجد سبب الوفاة في الأمراض المعتادة، كالطائفية فحسب، بل سنجد أيضاً سلاحاً مقاوماً أضعف مناعة الدولة وانتداباً بعثياً قضى على مناعات المجتمع، وحالة عامة من الالتباس لم تسمح للنظام اللبناني بالتطور في أي اتجاه. وفي هذا المعنى، فالالتباس تجاه القانون الانتخابي ليس إلاّ انعكاساً لحالة الالتباس تجاه النظام اللبناني بأكمله، الذي بقي عالقاً بين حدي الزوال، المتمثلين بالإغراء الطائفي في انقساماته والإغراء العلماني في تسطيحاته. لقد بات النظام اللبناني يتيماً، والتحق بهذا المعنى بتاريخ استقلاله، أو كما كتب عباس بيضون: «يبدو الاستقلال اللبناني على سبيل المثال يتيماً لا يدعيه أحد في الحقيقة. يبقى على حداثته، عرضة لنسيان يتواطأ عليه الجميع، شأنه شأن كل ما لا يخص جماعة بعينها» (فصلية «كلمن»، ربيع 2010). أما لحظة القانون الأرثودكسي فلحظة حساب واعتراف بأن الكذبة مجرّد كذبة. وضمن هذا الوضوح، ينشط التيار العوني بوصفه الترجمة الخطابية لحالة الموت التي باتت مسيطرة. وفي شيء من وجودية معكوسة، يمكن تلخيص شعار هذا التيار بمقولة «إذا لم تكن هناك علمنة، صار كل شيء مباحاً»، ما يفسّر ربط الوزير جبران باسيل بين علمنة التيار وطائفيته. لقد أخطأ من اعتبر هذا الربط تناقضاً أو نوعاً من الطائفية المتذاكية. فتصريحه ذاك يحتوي على حقيقة أعمق تعبّر عن حالة الانفصام المسيطرة. وعلى هذا النحو، يظهر المشترك بين النظرتين المشار إليهما وترجمتهما العونية كرفض للسياسة باسم وضوح ما، أكان علمانياً أو طائفياً، أو طائفياً مبرراً علمانياً. جنازة النظام اللبناني هي، في هذا المعنى جنازة السياسة اللبنانية، التي قضت تحت ضربات التطورات منذ أواخر القرن الماضي. وفي كل لحظة تضعف فيها السياسة، يطل التاريخ والثقافة، ليأخذا مكانها، ويحدّا من الخيال السياسي. فخلال شهر اللقاء الأرثوذكسي، لم يصعد صوت واحد لكي يدافع عن النظام اللبناني وشعاراته الفارغة عن العيش المشترك واختلاط الطوائف واتفاق الطائف التي، على رغم هشاشتها وركاكتها، قد تشكّل خياراً أكثر واقعية مما يطرح على الساحة اللبنانية حالياً، وربمّا أفضل للمسيحيين قبل غيرهم. فالنظام اللبناني قد يكون كذبة مفضوحة، غير أنها مفيدة خصوصاً في وجه «الحقائق» الصاعدة من يمين هذا النظام ويساره. أما دفن النظام ولغته ففتح الباب أمام خطابات جديدة لم يوجد ما يردعها، وهي تنتعش مع كل ضربة توجّه إلى هذين الميثاق والصيغة، غير مدركة أنّ هذا النظام، رغم مساوئه، إنما سمح لأصحاب تلك الخطابات بالبقاء كل هذه السنوات على قيد الحياة. ... قد يكون دفن النظام اللبناني خالياً من معزين ومن أهل، غير أنه ليس الدفن الأخير.