"مساعد رينارد": مباراة المغرب اختبار حقيقي    الرياض تستضيف العرض الدولي الثامن لجمال الخيل العربية 2025    زراعي عسير: أكثر من 6 ملايين ريال عائد اقتصادي للعمل التطوعي    انطلاق ملتقى أسر ذوي الإعاقة بعسير    تركي آل الشيخ يطلق النسخة الثانية من مبادرة "ليلة العمر"    "يوم الصفقة".. منصة استثمارية تتجاوز قيمتها مليار ريال في مؤتمر الابتكار في استدامة المياه    الفارسي: الفراغ عدوّك الأول.. والعمل مدرسة الحياة    مدينة الملك سعود الطبية تنجح في إنقاذ مريض توقف قلبه 25 دقيقة    الجوازات تضع شرطا للسفر لدول الخليج بالهوية الوطنية    افتتاح متحف البحر الأحمر في جدة التاريخية    أمير منطقة تبوك يتابع الحالة المطرية التي تشهدها المنطقة    سوق الأسهم السعودية ينهي تعاملاته مرتفعا بدعم من 3 قطاعات قيادية    إنه عمل غير صالح    وزير الخارجية يتلقى اتصالًا هاتفيًا من رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر    نائب أمير الشرقية يطلع على أعمال فرع الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف بالمنطقة    زين السعودية و KoçDigital" شراكة إستراتيجية لتسريع التحول الرقمي الصناعي    مدرب يوسف أكتشيشيك يتحدث عن موقف اللاعب    المنظومة الثقافية تدشّن مشاركة المملكة في معرض "أرتيجانو آن فييرا" بمدينة ميلانو الإيطالية    الهلال الأحمر بجازان ينفّذ برنامجًا تدريبيًا للإسعافات الأولية بمدرسة إبتدائية مصعب بن عمير    البرلمان العربي يدين مخططات كيان الاحتلال لفتح معبر رفح باتجاه واحد محاولة لتهجير شعب غزة    تتويج المنامة كأفضل وجهة عالمية لسياحة الأعمال في حفل جوائز السفر العالمية 2025    الصين تطلق قمرا صناعيا يعمل بالفحم    استشهاد فلسطينيين برصاص الاحتلال الإسرائيلي جنوب الضفة الغربية    مبابي يتطلع لكسر رقم رونالدو    قمة الدوري الإيطالي تجمع نابولي ويوفنتوس    الفيفا يعتذر لسكالوني بعد إلزامه بارتداء قفازات لحمل كأس العالم    المجلس العالمي لمخططي المدن والأقاليم يختتم أعماله.. ويعلن انضمام أمانة الرياض لعضوية المنظمة العالمية "ISOCARP"    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. "التخصصات الصحية" تحتفي ب 12,591 خريجًا من برامج البورد السعودي والأكاديمية الصحية 2025م    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يكرّم الفائزين بجائزة الملك خالد لعام 2025    حماس توافق على لجنة «تكنوقراط»    رغم الانتقادات التي تضمنتها «الوثيقة الأمريكية».. واشنطن الحليف الأكبر لأوروبا    البلوي يحتفل بزواج سامي    موظف يسرق ذهب محكمة إسطنبول    صليب العتيبي في ذمة الله    الجيش اللبناني يوقف المعتدين على «يونيفيل»    نائب أمير الرياض يواسي رئيس مركز الحزم في وفاة والدته    «توكلنا» يحصد جائزة أفضل تطبيق حكومي عربي    يسرا اللوزي تستعد بمسلسلين لرمضان    إعلان العروض المسرحية لمهرجان الرياض    إطلاق استوديوهات بلاي ميكر في القدية    شركة طيران تنفذ نظاماً جديداً تجاه « البدناء»    تتم عبر تصريح «نسك» للرجال والنساء.. تحديد زيارة الروضة الشريفة ب«مرة» سنوياً    موجز    التعادل يحسم مواجهة مصر والإمارات    مجمع الدكتور سليمان الحبيب الطبي بالعليا يستخرج شظية معدنية من قاع جمجمة بعملية منظار دقيقة    هجوم على روضة يفتح ملف استهداف المدنيين في السودان    التماسيح تثير الرعب في قرية مصرية    6886 شخصا يعانون من الصداع ومكة تسيطر ب39%    أغاني فيروز تغرم مقهى    جلسات سوق البحر الأحمر تناقش مستقبل صناعة السينما    الرئيس الموريتاني يزور المسجد النبوي    تكلفة العلاج السلوكي المعرفي    جمعية أرفى تُقيم فعالية "قوتك وقايتك" بمناسبة اليوم العالمي للإعاقة    أكثر من (39) ألف مهمة تطوعية و(19) ألف متطوع في الحرمين الشريفين خلال عام 2025    رئيس البرلمان المقدوني يستقبل إمام المسجد الحرام الدكتور المعيقلي    فضيلة المستشار الشرعي بجازان يلقي كلمة توجيهية لمنسوبي الدفاع الجوي بجازان    أمير منطقة جازان يؤدى واجب العزاء والمواساة لإبراهيم بن صالح هملان أحد أفراد الحماية (الأمن) في وفاة شقيقته    أمير منطقة تبوك يكرم المواطن فواز العنزي تقديرًا لموقفه الإنساني في تبرعه بكليته لابنة صديقه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الإنسان هو الغاية، وكل ما عداه وسائل»
نشر في الحياة يوم 03 - 02 - 2013

برحيل جمال البنا، ينطوي عالم يمتاز بشَبَه أصحابه بأبطال الروايات، يؤرخون لعصرهم ولبيئتهم، ويمتلكون في الوقت نفسه مزاجاً خاصاً بهم. صودف أن كان لي الحظ العظيم بلقاء جمال البنا مرات خلال زياراته لباريس قبل سنوات، لعل آخرها في 2007. رجل صغير القامة نحيلها، يرتدي تلك البزة المائلة إلى اللون الترابي والتي تسمى أصلاً «الصحراوية»، بسبب لونها، وكثرة الجيوب في قميصها، وخفتها التي كانت تجعلها لباساً مناسباً لمستكشفي الصحراء، قبل أن تصبح موضة تقشفية، تشبه بزة ماو الشهيرة.
والبنا متقشف في كل شيء، يأكل كالعصافير، يكتفي بالحساء لو أمكن، وبعض الفاكهة، ويتجنب اللحوم. ينام باكراً، ومُقِلٌّ في الكلام. لكنه، على رغم الهدوء اللطيف الذي يطبع محياه، يُدهش من يلتقيه بقدر من المشاريع يخطط لإنجازها، كأنه في مبتدأ عمره، بينما كان في أواخر الثمانينات. وفي مجالسه الخاصة، يبوح بطريقة طريفة ومؤثرة بحبه لزوجته، التي توفيت عام 1987، وبافتقاده حنوها، لا سيما أنهما لم يرزقا أولاداً. ثم يتكلم عن شقيقته ورفيقة مشاريعه، فوزية التي أسس معها «مؤسسة فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامي»، وكيف كانت تقاسمه الإيمان بالقوة التنويرية للإسلام. وهي وضعت في تلك المؤسسة كل مالها، بما فيه ما ورثته عن زوجها، وكانا هما أيضاً بلا أولاد.
هكذا وفرت التفرغ لجمال، ومكّنته من طباعة مؤلفاته عن «دار الفكر الإسلامي» التي أسساها، ومن الاحتفاظ بمنزله- مكتبته حيث احتلت رفوف الكتب كل جدرانه، بما فيها تلك العائدة لغرفة النوم بعد وفاة زوجته، كما يقول بوداعة لطيفة ضاحكة. ويتجاوز عدد الكتب في مكتبته 15 ألفاً، وفيها محفوظات نادرة، مرتبة ومفهرسة، ومجهزة للمطالعة لمن يرغب، بفضل احتضان الأصدقاء والصديقات.
بل إن جمال البنا انتقل في مطلع الألفية الثالثة إلى الهجوم، فأعلن تأسيس «دعوة الإحياء الإسلامي»، وأرفقها ب «مانيفستو» يقول المبادئ الإيمانية لهذه الدعوة بعشر نقاط، ليس فيها حشو ولا كلام تزويقي. فبعد أن تبدأ أولاها بأن الله محور الوجود، تشرح رابع تلك النقاط موضوعة أساسية يقوم عليها فكره، وهي استخلاف الله للإنسان في الأرض، ما جعله أرقى الكائنات، إذ أساس ذلك الاستخلاف هو المعرفة التي سجد الملائكة للإنسان بسببها. ثم تتناول بقية النقاط مسائل الحرية ومناهضة دعاوى التكفير، وكيف أن «العدل هو أساس التعامل بين الحكام والمحكومين، والرأسماليين والعمال، والرجال والنساء»، معتبرة «الظلم يماثل الكفر»، ومفترضة أن تحقيق العدل قد يتطلب «إعادة النظر في كل نصوص الشريعة الخاصة بالدنيويات... لأن التطورات قد تنفي العلة التي من أجلها سُنَّت بعض الأحكام... ولا يعد هذا انتهاكاً لها، لكنه تأكيد قيامها لما سُنَّت من أجله، وهو العدل».
ثم تعين تلك النقاط أن «التحدي العملي الذي يجابه الدول الإسلامية اليوم هو التخلف اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً واجتماعياً»، وأن التنمية هي «معركة حضارية تتم تحت لواء الإسلام، باعتبارها النمط المطلوب من الجهاد». وفي النقطة ما قبل الأخيرة، تقول الدعوة إن «المهم الآن ليس تفسير القرآن ولكن تثوير القرآن، وهو ما دعا إليه الرسول وطبقة أصحابه» الذين «هبوا كإعصار ليقوموا بأكبر حركة تغيير في العالم القديم». وفي «تفنيد دعوى حد الردة» ينهي البنا كراسه بأن «الإسلام لا يحتكر- وحده- الحكمة، لكنه ينشدها أنّى وجدها، وهو يتقبل كل الخبرات»، مهاجماً النزعة الماضوية، والنظرة المتخلفة إلى المرأة.
والمثير في الرجل موسوعيته، إذ كان قارئاً نهماً للأدب العالمي، وتبحّر في الفكر الغربي، قديمه وحديثه، من الميثولوجيا والفلسفة اليونانيتين وحتى الماركسية، مترجماً، ومناقشاً وناقداً. وهو اطلع على الحركة النسوية العالمية، ربما لمقدار ما ناهض المفهوم الدوني للنساء السائد في فهم كثيرين للإسلام. وراح يهتم بالحركة العمالية والنقابية، مؤمناً بها، بينما كان نافراً من الأحزاب لما فيها على الأرجح من عصبوية تخالف قناعاته وتكوينه (ولو أنه ألّف «حزب العمل الوطني الاجتماعي» من دون أن يصر على إحيائه). وهو أراد أن يختبر معنى أن يكون المرء عاملاً، فانخرط لمدة وجيزة في العمل في مصنع لأحد أصدقائه، لكن ذلك كان محاولة «مفضوحة» (قال عنه وقتها عامل لزميله «الراجل ده عامل عامل») ولو أنه نال على أثرها وثيقة سمحت له بالتسجل كعامل ونقابي. والأهم من هذه التجربة الطريفة، درسه الحركة النقابية العالمية، إذ ألّف أكثر من ثلاثين كراساً فيها، وأصبح أحد مراجعها، وظل يحاضر في «معهد الدراسات النقابية» في مصر على مدى ثلاثين عاماً، من 1963 حتى 1993. ولا بد من ذكر عمله لإصلاح السجون، كواحدة من علامات نشاطه الفائق. وقد سأله عبد الناصر حين التقاه بصحبة والده وإخوته، في بداية ما اعتبره البنا انقلاباً (متسائلاً عن شروط تحويله إلى ثورة)، عما إذا كان شيوعياً، وهو الشقيق الأصغر لحسن البنا مؤسس «الإخوان المسلمون» (الذين قال لهم ناصحاً «لا تؤمنوا بالإيمان بل آمنوا بالإنسان» معتبراً تلك هي القاعدة الإسلامية الصافية)، وابن أبيه المقرب إليه، وهو العلامة الإسلامي الذي كان لملازمته له أكبر الأثر في تكوينه، والذي عهد إليه حين أحس بقرب أجله بإكمال مسنده.
كان هاجس البنا إيصال أفكاره والتأثير في الناس. فهو بهذا «مثقف عضوي». وهو، مع «دعوة الإحياء»، أعاد طباعة مؤلفاته مجزّئاً إياها في كراريس صغيرة، بعد أن راجع صياغتها وضغط كلفتها في آن، لتكون «موجزة، بحجم وثمن يطيقه القارئ العادي، لا تثقل على جيبه ولا تعسر على فهمه». وكان جمال (الذي سماه والده تيمّنا بالأفغاني) يعتبر القرآن وحده هو المرجعية، ولم يكن يأبه للفقهاء، فهم بشر مجتهدون ليس إلا، وقد يصيبون ويخطئون. وهو في هذا كان يتبع مسلك أبيه أيضاً الذي كان يقول فيه إنه «رجل السنّة» من غير اعتبار للمذاهب. وجمال نفسه يقول في كراس «أصول الشريعة» إن «الشيعة جعلوا العقل أحد مصادر الأحكام، وهو ما رآه الغزالي في المستصفى»، جامعاً ما يبدو اليوم أضداداً في عالم الاستقطاب المذهبي السائد. يا لخسارتنا!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.