قريباً جداً، ينقل فاروق حسني «نشاطه الفني» إلى دبي، ونهائياً على الأرجح. هل هو على عتبة الهجرة؟ إنه ينتظر رفع إجراءات حظر السفر- قرار أرّقه في الفترة الأخيرة - ليجوب العالم متخففاً من الحمل الثقيل: «أنا الآن بلا عِتاد... هذا هو التحدي الحقيقي». الآن سيترك وزير الثقافة المصري الأسبق خلفه تركة من مسيرة طويلة لم تُحسم أبرز قضاياها بعد، ولا تزال معاركها قيد الجدل حتى اليوم. لا يعتقد وزير ثقافة نظام حسني مبارك لثلاثة وعشرين سنة أنه سيقوى على الإقامة في مكان واحد، بل هو يصف حياته المقبلة بأنها ستكون «تنقّلات» ما بين روما وباريس والخليج. «الدولة الآن في حال من السيولة الشديدة، أوضاع كثيرة تغيّرت ومعظم محبي الفن واقتناء اللوحات هاجروا، وأنا لن أتحمّل تخزين لوحات تعوّدت أن تجوب معارض العالم»، يقول حسني. لا يبدو مشغولاً كثيراً بتوثيق شهادته عن عصر وحقبة ونظام عرف رموزه وكان قريباً منه وخدم فيه كأقدم وزير، وإنما يفضل في هذه المرحلة التركيز على «الفنان» في مسيرته. أمّا المواقف والأحداث الثقافية والسياسية الفاصلة في تاريخ مصر المعاصر، فهي لن تزاحم «العواطف» في ذكريات الطفولة والعلاقة مع البحر وطيور النورس ثم خبرات الحياة الأوروبية في مذكرات يُسجلها حسني - منذ أربع سنوات - على شكل محاورات مع شاعر شاب. مئة وخمسون مكتبة عامة وأكثر من ثلاثين متحفاً وقصور ثقافة ومراكز للإبداع وثلاثة مسارح أوبرا في القاهرة والإسكندرية ودمنهور، وأخيراً «المتحف المصري الكبير». «الإنجازات» لها حتماً مكان الصدارة في حديث الوزير الفنان، أما أخطاء عهده، فهي بالضرورة «أخطاء الآخرين». الهدوء والابتسامة والتباسط في الحديث تُشكّل ملامح شخصية فاروق حسني التي طالما عُرف بها، لا في هذا الحوار فقط. في حديثه إلى «الحياة» لن يتخلى حسني بسهولة عن «تلقائية» تفضح بعض المراوغات، أو تحول دون امتناعه عن الإجابة. وبرغم إصراره على تقديم مبررات بدت معها محاولات حمله على الاعتراف بالتقصير بائسة، إلاّ أنّ شهادته الخاصة عن عصر مبارك جاءت كالآتي: «كنّا مقصّرين... كانت تُبنى دولة، على حساب الإنسان» يقول حسني إن التاريخ يذكره كواحد من أفراد النظام السابق، أما هو فلا يعيبه ذلك لأنّه سعد بالعمل مع هذا النظام: «تركني أفعل ما أريد، كانت راحتي كبيرة». ويضيف: «أحببت كثيراً حسني مبارك، وقف خلفي مرّات، ليس هناك ما يجبرني على التنكر لمواقف كان فيها قوياً وشريفاً. أما سوزان (زوجة الرئيس السابق) فأبسط حكم عادل بشأنها هو أنها كانت واجهة مشرّفة لمصر في الخارج». عفوياً جاءني الرد على الهاتف: «سيادة الوزير معك»! لا يزال فريق المكتب الخاص، وهو محترف ومرسم في ضاحية الزمالك، يتصرف وكأن وزير الثقافة الأسبق لم يبرح منصبه، حتى مظاهر حياته وتحركاته لم تفقد «وجاهتها». ينعم بحياة هادئة ومرفّهة لم تتغير كثيراً بعد الثورة: «حياتي في الوزارة هي حياتي الآن». ينتظر فاروق حسني صدور كتاب توثيقي عن دار «إلياس» في القاهرة، أعدّه الفنان مصطفى الرزاز يتناول فيه لوحاته، وكانت الجامعة الأميركية في القاهرة اعتذرت عن عدم طباعته عبر دار النشر التابعة لها، «مراعاة للأوضاع التي تمر بها البلاد». أما مذكراته، فهو يُرجئ نشرها لاعتقاده أن القرّاء في مصر ليسوا مهيّئين حالياً لاستقبال «شيء ممتع». تهمة «الكسب غير المشروع» التي برّأه القضاء المصري منها أخيراً، كانت تطوّراً غير مريح بالنسبة إليه ضمن الأحداث التي تلت الثورة. ظلّ لشهر ونيف لا يرسم. تحسّسه من هذه القضية فاق الشعور ب «حرج» أو «مسؤولية»، لكونه أحد رموز نظام أسقطته ثورة شعب. وبمرارة كبيرة يستعيد إجراءات تفتيش ممتلكاته، قائلاً: «شعرتُ بالظلم البيّن»، ثم يتخلى عن التأثّر ويُعاود تناول الأمور بتساهله المعهود: «طوال الوقت كنت أُتّهم بسرقة الآثار والغنى الفاحش، لكنّ حكم البراءة، جاء، ليؤكد بطلان منطلقات من ينتقدني». بعد الثورة، عاد فاروق حسني إلى مرسمه، وأنجز أكثر من 60 لوحة، لكنّه يقول إن إنتاجه أيام الوزارة كان أغزر: «وزارة الثقافة هي اللوحة الكبيرة... لم أكن أبداً موظفاً لدى الدولة». لكنّه يتمتع اليوم، كما يقول، بفرصة أكبر للتأمل والقراءة، تحديداً في العلوم والفيزياء، وسماع الموسيقى الكلاسيكية التي يعشقها، وأخيراً لقاء الأصدقاء. أحياناً، يرتاد متنزهات عامة، خصوصاً تلك المطلّة على النيل أو الملحقة بحدائق مفتوحة: «يراني أُناس عاديون فيُقبلون عليّ ويبادرون بالتحية، كأنني كنت غائباً ثمّ عدت». أمّا رفاقه اليوم فهم «رفقاء الفكر والموسيقى: محمد درويش، وجيه، هبة، هاني شنودة...». وهو يستعيد ذكرى بداية تسلّم مهمات الوزارة يتخلى عن هدوئه، الكلمات تصاحبها ضربات متواترة بكفه على المسند: «جئت وأنا أحفظ مصر كلها عن ظهر قلب»، في إشارة إلى وظائف ثقافية عدة تولاها قبل أن يصبح وزيراً لمدة 23 سنة انقضت و»لم يكن أتم إلاّ ثلاثة أرباع ما طمح إليه». يقول فاروق حسني بعد كل هذه الأعوام: «لم آخذ حقي من التقدير، لكنني سأناله حتماً ذات يوم». «حظيرة» وزارة الثقافة، ذلك المصطلح الذي جرى تداوله لوصف استقطاب المثقفين المصريين، لا يزعج الوزير السابق: «هذا أمر مشرّف، يدلّ على إدراك قيمة الوزارة». مواجهة وتحديات ينقم قطاع عريض من المسرحيين في مصر على فاروق حسني، بعضهم حمّله مسؤولية تجمّد أنشطة مسارح هدمتها خطط تطوير لم تكتمل في الوقت الذي استنزفت أموالاً طائلة. المعارك في هذا الصدد لم تنته حتى الآن، لكن حسني يواجه بشراسة: «مفلسون ينبشون في الدفاتر القديمة». على أية حال هناك اليوم مسرحيون، عروضهم مهددة بالتوقف لشحّ التمويل، يحنّون إلى أيام فاروق حسني ويرون أن الأحوال تدهورت من بعده. يدافع حسني عن «صندوق التنمية الثقافية»، الذي أنشأه، كما يقول، من «دخل الوزارة لا بأموال الدولة». رفع هذا الصندوق قيمة منح التفرغ من 150 جنيهاً في الشهر حتى بلغت 1500 جنيه، ولولاه ما تمّت مشاريع كثيرة مثل: صالون الشباب وجوائز مهرجانات المسرح والسينما، والمركز القومي للموسيقى...وقضايا الفساد التي طاولت الصندوق لا تعني له الكثير: أيمن عبد المنعم (أحد مساعديه) متهم باختلاس 980 ألف جنيه، والصندوق موازنته أضخم من ذلك بكثير. يعترف فاروق حسني بأنّ الرئيس السابق حسني مبارك رفض قبول استقالته ثلاث مرات وكان يقول له: «أنت تعمل معي لا مع الحكومة». حريق قصر الثقافة في بني سويف، جنوبالقاهرة، هو في نظر فاروق حسني «غباء من الآخرين»، وسرقة لوحة «زهرة الخشخاش»، تقع خارج نطاق مسؤولياته. يؤكد أنه اعتمد قبل واقعة السرقة بستة أشهر 27 مليون جنيه لتطوير متحف محمود خليل وصيانته، وهو كان يقتني اللوحة الشهيرة، ولم يتمّ شيء. وزارة الثقافة هي «تربوية» في الأساس، ما دامت مسؤولة عن ثقافة الناس، وهو يبرر هنا قرار مصادرة ثلاث روايات أصدرتها هيئة تابعة لوزارة الثقافة في مستهل الألفية الثانية، مع أنه وقف قبل تلك الواقعة بشهور قليلة ضدّ مصادرة رواية نشرتها الهيئة نفسها وهي رواية «وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السوري حيدر حيدر. يرد الوزير بأنه لمس «تدنياً فاضحاً» دفعه إلى «الخجل» عندما قرأ الروايات الثلاث، التي صدرت ضمن سلسلة كان يرأس تحريرها الروائي المصري الراحل محمد البساطي. لكنّ رواية حيدر ذكّرته بإبداعات نجيب محفوظ، ومن ثم لم يجد مبرراً للمطالبة بمصادرتها. ويوضح أن موقفه في قضية الروايات الثلاث استهدف «إبطال مفعول خطة لتوريط الوزارة في صدام مع المحافظين»، ثم يستدرك: «أشهر معاركي كانت في مجلس الشعب (البرلمان) والجميع كان ينتظرها، معركة الثقافة مع التخلف، الثقافة هي حائط الصدّ الأخير، وأنا قدّمت الإبداع كما يجب وكما أعرفه وأحبه وأحب أن يتعاطاه المصريون». أخيراً، لا يستطيع فاروق حسني الحدس بالشكل الذي ستكون عليه الثقافة والإبداع بعد عامين على الثورة وفي ظلّ حكم الإخوان. «ما تغيّر هو روح الشعب، والمطلوب في المستقبل جديّة المشروع الثقافي». كما يقول.