لم يغب عن ذهني حين كتبت مقالتي قبل الماضية: «سيرة ذاتية قصيرة»، أني لا أكتب عن نفسي فقط، وإن كنت قد استخدمت بعض ملامحي الخاصة فيها. لم أكن أكتب عن شخص محدد بعينه، بل عن إنسان عربي أكمل خمسين عاماً من حياته وهو ينتظر السلام. وكنت أراهن على القارئ العزيز أن يدرك مغزى سيرتي تلك بأنها ليست لي وحدي. «هذه ليست سيرة ذاتية... هذه سيرة أمة خلال نصف قرن» كما علق الصديق والباحث المعروف سعيد حارب. حقاً يا دكتور سعيد هي سيرة أمة، ظلت طوال نصف قرن وأكثر من قبل وربما من بعد أيضاً، تنتظر السلام الذي سيأتي على حصان أبيض، لكن انتظارها كان دائماً ينقضي بوصول الحصان الأسود حاملاً على جنبيه الحرب والسلاح ويمتطي ظهرَه وزراء الدفاع والهجوم! لم يكن مفاجئاً لي أن يكون تقاطع القراء أكثر ما يكون في تلك السيرة عند محطة القدس (الفردوس المفقود). فشؤوننا وشجوننا وأفراحنا وأحزاننا كلها لا تكتمل ما لم يكن في غرتها شجَن القدس، وقد تجلى هذا الشعور أكثر ما يكون في تعليق الخبير العربي هشام نشابه وسانده الباحث المتعدد أمين كشميري والمستشار الإعلامي عبدالرحمن الأنصاري، حين تقاطعوا مع السيرة في دموع الحزن والتجلّد على الانتظار الطويل لعودة القدس. لكأن العربي الذي لا يبكي القدس ليس بعربي حقاً! ظلت القدس المخطوفة، وستظل ربما لسنوات قادمة، مرتعاً خصباً ودائماً لاستنفار/ استنفاد طاقاتنا وأشجاننا وحبنا وبغضنا واتفاقاتنا وخلافاتنا. حتما لن تخلو أيّة سيرة ذاتية لعربي أربعيني أو خمسيني أو أكثر من دون أن تمتلئ أزقّة السيرة بأحاديث القدس وحكاياتها وجروحها. لكن ماذا عن سيرة العربي الثلاثيني والعشريني وما دون ذلك، هل ستظل زهرة المدائن مكوّناً أساسياً في تلك السِّيَر؟! من الإنصاف لهذا الجيل أن نقول أن الذي يبدو من المؤشرات الراهنة، سواء على صعيد الاستفزازات من لدن حكام/ تجار الأسلحة أو ردود الفعل الساخنة من لدن الشباب العربي الذي لم يعد يرى أن القدس وحدها المحتلة في أرضه (!) أن القدس ستظل أيضاً حاضرة في ذاكرتهم. كَتَبَ معلّقاً على السيرة، الديبلوماسي العراقي العريق محيي الخطيب مواسياً لي في يوم ميلادي الخمسيني: «قدَرنا أننا نرزق بالنفط ثروةً وإسرائيل (جاراً) ثقيلاً علينا عزيزاً على ذوي الشأن الدولي فرأينا ما رأينا، وسنرى أياماً سوداء أخرى. قبل سنين ظهر فيلم مصري باسم (لا عزاء للسيدات)، وهو عنوان أهملَنا إذ لا أرى عزاء للسادة أيضاً، فقد بكينا مع السيد الوالد القدس، وبكينا مع ولده أقداساً». القدس أيضاً؟! بل الأقداس هذه المرة، هكذا يتحدث الرجل السبعيني بمرارة عن سيرته المعجونة بالأقداس المبكية، ليؤكد أن ما أسميته سيرتي الذاتية القصيرة هي في حقيقتها سيرة ذاتية طويلة... من القلق العربي المتراكم إلى الربيع العربي المقلق * كاتب سعودي Twitter | @ziadaldrees