تحاول الصبية أن تسأل أُمّها (ريبيكا) بلهجة مبطنة بالعتاب والحزن، إذا كان ما تفعله يستحق...؟ لكنها لا تكمل عبارتها إذ يغلب التأثر عليها. كانت تقصد على الأرجح: «كل هذه التضحيات»، ف «ريبيكا»، بطلة الفيلم الروائي «ألف مرة تُصبح على خير» للمخرج النرويجي إريك بوبي (يعرض حالياً في صالات سينمائية هولندية)، كانت قد عادت للتو من رحلة علاج طويلة بعد أن كانت قريبة جداً من الموت في أفغانستان، مكان عملها الأخير، مُصورةً فوتوغرافية في مناطق حروب ونزاعات. لم تجد الأُمّ إجابات سريعة. اقتربت من قول شيء ما، لكنها تعثرت بالكلمات. في موضع آخر من الفيلم، ستجد العبارات المُناسبة، ستخبر الابنة المُراهقة بأن الغضب مما يجري في العالم وغياب العدالة عنه، هما الدافع وراء عملها الخطير، كمُصورة فوتوغرافية تذهب إلى مناطق العالم المُشتعلة لتنقل ما يجري هناك. لا تختلف أزمات مُصورة فيلم «ألف مرة تصبح على خير» التي تلعبها باقتدار كبير الممثلة الفرنسية المعروفة جولييت بينوشيه، عن تلك التي تعيشها المصورة الفوتوغرافية الأميركية «لي» (دور رائع للممثلة الأميركية كاثرين كينر) في فيلم «قِصة حرب» (الفيلم الثاني للمخرج الأميركي مارك جاكسون، والذي عرض في مهرجان صندانس السينمائي لهذا العام)، فالأخيرة عادت هي الأخرى للتو من منطقة حروب (ليبيا)، وهي الآن في مدينة إيطالية صغيرة من أجل التقاط الأنفاس قبل أن تواصل طريقها إلى بلدها. إن كل واحدة من هاتين الشخصيتين تحاول أن تجد بعض الأمان، وتضميد الجراح الجسدية والنفسية والتفكير بحياتها والعمل المُتطلب الذي تمارسه، وما إذا كان من الممكن مواصلة هذه الحياة الخطرة، إلّا أن السيدتين ستكتشفان سريعاً أنهما، مثل الجنود الذين قاتلوا طويلاً على الجبهات، أدمنتا الحروب، فلم تعد العودة إلى حياة «طبيعية» مُمكنة بالنسبة إليهما. وسط خراب العالم يتشابه الفيلمان كثيراً في بنائهما ومناخاتهما وروحهما، هناك اختلافات تخص القصص المُقدمة، ف «ريبيكا» تعود إلى زوج طفح كيله من أسلوب حياة زوجته، وشعور دائم بالذنب ينغصها تجاه بناتها اللواتي يكبرن بعيداً منها، فيما بدت «لي» وحيدة في العالم، وحتى الصديقة التي كانت تحادثها من نيويورك اختفت سريعاً من الأحداث. على رغم اختلافات المحيط وتفصيلات القصص يُدور الفيلمان في الفلك نفسه، عن الذي يحدث عندما يعود المراسل الحربي إلى «سَلام» حياته السابق، وهل يمكن الحديث عن «سَلام» ما وسط خراب العالم؟ كما يتشابه الفيلمان في تركيبتهما في تقديم يوميات نساء مررن بتجارب الصدمات القاسيّة، ف «ريبيكا» كادت تُقتل في أفغانستان عندما كانت ترافق سيدة أفغانية كانت في طريقها لتنفيذ عملية انتحارية، و «لي» مرت بتجربة فظيعة هي الأخرى، تركت أثاراً غائرة على جسدها وروحها. كما يحمل الفيلمان مرارة وتعقيد سؤال أخلاقي، عن مسؤوليات الغرب (والمُشاهد أيضاً) تجاه كل هذا العنف المتواصل في أمكنة كثيرة من العالم؟ كما يبدو الفيلمان وكأنهما ردود فعل سينمائية على ما يحدث للصحافيين في السنوات الأخيرة، وكيف تحولوا إلى أهداف في الحروب والنزاعات المُعاصرة، هذا على رغم أن دورهم ومكانتهم أصابها كثير من التغيير، فلم يعودوا كما كانوا يوماً، المصدر الوحيد للأخبار، بخاصة مع الثورة التكنولوجية، والتي مكنت أياً كان من التحول إلى صحافي أو مصور إذا شاء، الأمر الذي يجعل الفيلمين في جزء منهما كأنهما حنين لزمن ماضٍ، عندما كان من شأن صورة فوتوغرافية لصحافي أو مصور أن تحرك رأياً عاماً واسعاً ومُتجانساً. الفيلمان يُضخمان ويُفخمّان بشدة دور المُصور الفوتوغرافي، فشخصيتاهما الرئيسيتان، هما صورة غابرة أو في طريقها إلى الأفول للصحافي أو الإعلامي النجم الذي تُفتح له الأبواب، ويصرف من دون حساب، وكلمته مسموعة وحقوقه مُصانة. تغلب السوداوية الشديدة على الفيلمين، وهذه لا تأتي فقط من طبيعة القصص المُقدمة، فمعالجة المخرجين تبدو كأنها تحاول أن تصل ما بين عنف المناطق المشتعلة التي عملت فيه المصورتان، وبين الحاضر المُعاش لهما، عبر التركيز الحميم على الحزن والذهول الذي يطبع تصرفات المصورتين مثلاً، والحمل الأخلاقي الذي يرزحان تحته، هما عاشتا تجارب مُروعة في قسوتها، لذلك تبدو العودة النفسية الكاملة إلى اليوميّ المُعتاد في حياتهما المدنيّة شديدة الصعوبة، وأحياناً مستحيلة. يحاصر «الآني» «ريبيكا»، فهي يجب أن تصلح علاقتها مع زوجها وبناتها قبل فوات الآوان، أما «لي»، الوحيدة في فندق إيطالي، فتجد في فتاة ليبية، وصلت بصورة غير شرعية إلى المدينة الإيطالية (تلعب دورها الممثلة الفرنسية من الأصول العربية حفصية حرزي)، ما يُشبه «الطريق» الذي يُعيدها إلى «ليبيا»، المكان الذي لم تخرج منه عاطفياً بَعْد، بخاصة أنه شهد أحداثاً شخصية شديدة القسوة، تخص زميلاً لها، والتي لن يكشفها الفيلم إلا في دقائقه الأخيرة. ما قبل الحضارة يبدأ فيلم «ألف مرة تُصبح على خير» بمشاهد مُرعبة من أفغانستان، البلد الذي يبدو كأنه قطعة من جحيم ما قبل الحضارة، ف «ريبيكا» تُمنح الفرصة من طريق تنظيم مُتشدد لتصوير تجهيز سيدة أفغانية نفسَها لتنفيذ عملية انتحارية. جمعت المشاهد الشديدة القسوة تلك بين حميمية المُجتمع النسائي المُغلق وطقوس الموت في المجتمعات الشرقية، كما يتبع الفيلم «طريق الموت» للمرأة التي لم تعش حياة طبيعية أبداً، وهي تسير الآن في منطقة مُزدحمة لتقتل مجموعة كبيرة من الأبرياء، من الذين لم يعرفوا حياة سويّة أيضاً، في دورة مجنونة من الألم. بعد البداية القوية تلك، واجه الفيلم صعوبة كبيرة في الاحتفاظ بالخط النفسي ذاته، خصوصاً أنه ظل يدخل ويدور في حلقات من الكليشيهات، والتي كان يخرج من بعضها، فيما بقى محبوساً في البعض الآخر، خصوصاً عندما جعل الفيلم إمكان عودة للبطلة إلى عملها السابق كذروة درامية للعمل ومصدر تقليدي للتشويق لا كنتيجة طبيعية لما يجري حولها، على عكس فيلم «قصة حرب»، والذي قدم معالجة فكرية وأسلوبية غير مُهادنة على الإطلاق. فشخصية الفيلم الرئيسية بدت أكثر واقعية، هي مرت أيضاً بتجربة صعبة كثيراً في ليبيا، لكن المخرج أراد لها أن تبتعد عن الصور النمطية، وجعلها تواجه أسئلة حياتها وألَمها الجسدي والنفسي من فندقها الإيطالي، من دون أن ينجر الفيلم إلى تقديم تفسيرات، فبقي كثير من أفعال الشخصية الرئيسية فيه يشوبه الغموض، ومن دون خلفيات لمعظم وقت الفيلم. تواصل الممثلة الفرنسية جولييت بينوشيه مع دور «ريبيكا» سلسلسة النجاحات الباهرة في السنوات الأخيرة، بأعمال تتنوع بين أفلام باللغة الفرنسية وأخرى بالإنكليزية. بدا دور «ريبيكا» مناسباً كثيراً للممثلة التي تتميز دائماً عندما تؤدي أدوار نساء مثقفات، بهموم شخصية عميقة وتوترات داخلية، لكنهن يكتمن الكثير في دواخلهن ولا ينفجرن إلا نادراً، هي تلعب في الفيلم هذا دور سيدة عليها أن تخفي جزعها بأن مهنتها كمصورة مناطق حروب، ربما وصلت إلى نهايتها، غير قادرة على تقبل حياتها من دون العمل (الرسالة) الذي تؤمن بأهميته. على رغم أداء جولييت بينوشيه الرصين، إلا أن زميلتها كاثرين كينر بدت أكثر واقعية وصدقاً وتميزاً بدور «لي». تألقت الممثلة الأميركية التي تُعد واحدة من أيقونات السينما المستقلة الأميركية، بالحفاظ على أداء مشحون ومأزوم واحد على طوال زمن الفيلم، بخاصة في المشاهد الافتتاحية، والتي ندر فيها الحوار، وتظهر وصول الشخصية إلى الفندق، ثم انعزالها في غرفتها، ثم المشاهد في الغرفة، عندما تكتشف كدمات زرقاء على ظهرها من أثر التعذيب وبصقها الدماء في مغسلة الحمام، أو عندما تقوم بإعادة ترتيب أثاث الغرفة ليناسب العزلة التي تريد فرضها على نفسها، فتدير جهاز التلفزيون لتواجه شاشته الجدار، وتغلق الستائر، وتتكور بعدها كالجنين على سريرها، مؤذنة ببدء نفق الكآبة الطويل المُعتم.