في نظرة عامة لما يعانيه الإبداع العربي من تضييق، نكتشف حصاراً مثلثاً تمارسه ثلاث رقابات جائرة. الأولى، الرقابة السياسية التي تمارسها السلطات السياسية على الإبداع الذي ترى أنه معارض لتوجهاتها. والثانية، الرقابة باسم الدين التي تمارسها السلطات او الهيئات الدينية التي ترى أنها وكيلة الله على الأرض، فتقف بالمرصاد لكل أدب أو فن تظن أنه يزدري الدين أو ينال من ثوابت العقيدة أو يسيء الى مقدسات الأمة. والثالثة، رقابة سلطة العقل الجمعي التقليدي وتقوم على خليط مما تشيع السلطة السياسية أنه معاد للوطن، ومما تشيع السلطة الدينية أنه معاد للمقدسات. والشاهد أن هذه الرقابات الثلاث غير منفصلة عن بعضها بعضاً بل متداخلة متواشجة «كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً». فكل رقابة من هذه الرقابات تستخدم الرقابتين الأخريين في تمتين سطوتها وتعزيز قبضتها القابضة. على أن الناظر لو تمهل قليلاً لواجهته أربع مفارقات كبيرة من نوع المضحكات المبكيات: الأولى، سيادة مرجعية الفتوى على مرجعية القانون، ما يعني تضاؤل الدولة المدنية وتضخم الدولة الدينية. لقد كانت الدولة العربية الحديثة تسير، منذ قرنين، على ساقين هما: الفتوى والقانون، أي المرجعية الدينية والمرجعية المدنية، وهو ما كان يسبب نوعاً من الانقسام في حياة المجتمع. لكن العقود الثلاثة الأخيرة حسمت هذا الانقسام لمصلحة الفتوى، ونُحِّي القانون جانباً تماماً فصرنا ازاء هذه النتيجة: مجتمعاً مدنياً تحكمه المرجعية الدينية!. الثانية، انقلاب معظم البرلمانات العربية على دورها الأصلي. فالأصل في فكرة قيام البرلمانات الدفاع عن الحرية والتنوع والاختلاف، ومراقبة السلطة التنفيذية لمصلحة الشعب، لكن برلماناتنا العربية فعلت العكس: تراقب الشعب وتحمي السلطة التنفيذية! ذلك أن كثيراً من حالات قمع الفكر ومصادرة الإبداع في العقود الأخيرة، انطلقت من البرلمان، مهد الحرية وقلعة التنوع، في غير بلد عربي. حدث ذلك في واقعة المطالبة بحرق كتاب «الفتوحات المكية» للمتصوف محيي الدين بن عربي، في البرلمان المصري أواخر السبعينات، وحدث مجدداً في البرلمان المصري (عبر لجنته الدينية) بخصوص رواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر العام 2001، وحدث ذلك في البرلمان الكويتي الذي طالب بمصادرة ومحاكمة الكاتبة ليلى العثمان بسبب قصصها «الرحيل» و«في الليل تأتي العيون» و«الحب له صور». وحدث ذلك في برلمان البحرين حينما هاج السلفيون فيه على العرض الشعري الغنائي الراقص «مجنون ليلى» لمارسيل خليفة وقاسم حداد العام 2006. وهناك الكثير من الأمثلة التي تتفق جميعها في المعنى: انقلاب البرلمانات العربية على فلسفتها الأصلية ومهمتها الجوهرية، لتصبح رقيباً ضابطاً كابحاً على الشعب، مبرراً وحامياً ومدافعاً عن الحكومات. وبالطبع فتفسير هذا الانقلاب وهذه المفارقة يسير، ذلك أن هذه البرلمانات لم تتكون تكوناً شعبياً حراً في الأساس، بل تكونت في حضن السلطة وبدعمها (وتزويرها)، ومن ثم فهي تدافع عن ولي النعمة أو تصور نفسها له أنها تصونه وتعطيه التغطية الدينية! والمفارقة الثالثة، تناقض الدساتير والقوانين العربية بين حماية الحرية وكبحها، إذ أنها تضم بنوداً رئيسية بارزة تكفل حرية الرأي والاعتقاد والفكر والإبداع، لكن هذه البنود لا تلبث أن تتلوها بنود أخرى أو قوانين شارحة، تضع لتلك الحرية شروطاً وتحفظات واستدراكات تفرغ بند الحرية من محتواه فيصبح لا وجود له مثل «في حدود القانون»، «بما لا يتعارض مع ثوابت الأمة»، «بما لا يخدش الحياء العام»، «بما لا يهين رموز الدولة»، «في إطار الآداب العامة»، «بما لا يتناقض مع خصوصية الأمة»، «بما لا يخدش تراثنا المقدس». مثل هذه الشروط المطاطة (التي يمكن أن يختلف معناها من مكان لمكان ومرحلة لمرحلة وجماعة لجماعة وشخص لشخص) تجعل الدساتير العربية، في موضوع الحرية، تأخذ بيد ما تعطيه بيد، الأمر الذي ينتهي إلى انتصار القمع وهزيمة الحرية. والرابعة، تحالف الاستبداد السياسي مع الاستبداد باسم الدين، على النحو الذي كان أشار إليه عبد الرحمن الكواكبي في «طبائع الاستبداد» حينما بيّن أن هذا يتقوّى بذاك، والعكس. فالاستبداد السياسي يتخذ من الاستبداد باسم الدين ستاراً يعطي للتسلط السياسي شرعية مقدسة، والاستبداد باسم الدين يتخذ من الاستبداد السياسي ستاراً يعطيه مواقع سياسية تضيف الى سلطان السماء سلطان الأرض. هو حلف متين غير مقدس، على مر الزمن، يكون مضمراً حيناً ومعلناً حيناً، لكنه في كل الأحيان يعمل بنظرية «الأواني المستطرقة» التي تفضي إلى بعضها بعضاً في تبادل كامل للمنفعة والتحكم. وإذا بدا في بعض اللحظات أن بينهما تناقضاً، فإن هذا التناقض الشكلي تناقض ظاهري لا جوهري، والنزاع بينهما حينذاك ليس إلا نزاعاً على الملكية: ملكية العباد باسم الوطن، أو ملكية العباد باسم السماء. ماذا ينبغي علينا، نحن المثقفين، أن نفعل؟ أ- أن نسعى إلى تفكيك هذا الحلف غير المقدس. ب- أن نجتهد لإلغاء، أو تعديل، القوانين التي تكبل حرية الرأي والاعتقاد (مثل قانون الحسبة، والشروط التي تفرغ كفالة الدستور لحرية الرأي والاعتقاد من مضمونها الحق، والقوانين ذات الطابع الطائفي أو العنصري، التي بدورها تجعل بند «المواطنة» فارغ المضمون). ج- أن نسعى إلى تنقية التعليم والإعلام من النزعات الطائفية والعنصرية وشهوة نفي الآخر. د- أن نواصل الجهد من أجل ألا تستشار الهيئات الدينية في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الحياة، فنحن أدرى بشؤون دنيانا – كما أشار الرسول الكريم - انطلاقاً من الإيمان بأنه «حيث توجد المصلحة فثم شرع الله». ه- أن نسعى لإنقاذ الدولة المدنية من قبضة الدولة الدينية، هذه الدولة المدنية التي حاول المفكرون عبر قرنين كاملين تثبيت دعائمها، بدءاً من الطهطاوي وصولاً لصادق جلال العظم ونصر حامد أبو زيد، لكنها اليوم تختطف بواسطة المتشددين المتعصبين، لأن الدولة الدينية دولة التحريم، بينما الدولة المدنية دولة التحرير: تحرير الوطن والمواطن، بل تحرير الدين نفسه من سجن فقهاء الظلام. و- في مواجهة «تحالف القامعين» علينا أن نقيم «تحالف المقموعين»، لنشكل حائط صد في وجه ذلك الشلال الجارف الذي يهدد الحضارة والإنسان والحرية والحياة.