ستكون الحدود واحداً من الأمور الشاقة التي ستواجه الثورة في سورية بعد إنجازها إسقاط النظام. فقد أنتج الأخير خلال سنوات حكمه الأربعين علاقة مع الحدود جعلتها في قلب المعادلة السورية الداخلية. إنها الحدود التي يتسرب منها كل شيء، والتي لا تفصل بين السيادة السورية وبين سيادات الكيانات المجاورة إلا وفقاً لما تتطلبه معادلة حماية النظام. فعبرها أرسلت السيارات المفخخة إلى عمان في العقدين السابع والثامن من القرن الفائت، ومنها تسلل أوجلان إلى تركيا ومنها، وهي كانت بوابة كل «الجهاديين» العرب إلى العراق، أما الحدود مع لبنان فلا مجال لحصر وظيفتها في هذه العجالة. سورية الدولة الأمنية العاتية، كانت مخلعة الحدود بقرار واع من نظامها. وعلى أطراف البلد كانت حروب أهلية وأمنية باردة تشتغل منتجة حزام أمان لمناطق الداخل حيث يتحصن النظام بسطوته الأمنية. وفي منطقة هذه حال معظم دولها، فإن الدولة التي تسقط أو توهن تتحول حدودها إلى وجهة لتصدير العنف، من البلاد المجاورة إلى خلف تلك الحدود المترنحة. كانت هذه حال العراق قبل سنوات. آلاف «الجهاديين» أتى بهم النظام السوري عبر مطار دمشق وأرسلهم إلى بلاد الرافدين. الأردن في حينها كان جزءاً من التحالف الدولي الذي يحارب الإرهاب، لكنه لم يتوانَ عن تسهيل «هجرة» الجهاديين الأردنيين إلى العراق، فقتالهم هناك أقل كلفة، وأبو مصعب الزرقاوي غادر الأردن عبر مطار عمان إلى باكستان ثم أفغانستان ومنها إلى إيران فالعراق. كانت سهولة الوصول إلى العراق تشي بأن منظومة كاملة من التسهيلات وظيفتها امتصاص «الجهاديين» في العنف العراقي. من مطار صنعاء إلى مطار دمشق، ومن الأخيرة إلى «دولة العراق الإسلامية» في الأنبار. كانت سوقاً مزدهرة ربح فيها كثيرون وخسر العراق، ويجب القول أيضاً إن الأميركيين خسروا كذلك، فقد دفعوا أثماناً باهظة لإسقاط صدام حسين، وها هم يُسلمون العراق إلى خصمهم الأول في العالم، وهو إيران. «الجهاديون» اليوم في رحلة العودة، لكن ليس إلى بلادهم، إنما إلى البلد الذي كان محطتهم الموقتة قبل دخولهم العراق، أي إلى سورية. الجهاديون غير المخلصين للنظام الذي استقدمهم، ها هم اليوم في أرياف المدن السورية، التي يعرف بعضهم أهلها، ولبعضهم الآخر بقايا قرابية فيها. «الجهاديون» العراقيون وصلت أعداد منهم بعد أن غادر أمراؤهم إلى مصر وإلى اليمن. ومن الأخيرة ثمة تقارير تقول إن خط «صنعاء – الجنة» أعيد فتحه لكن ليس عبر مطار دمشق، فقد استعيض عن الشام بأنقرة، ومن أنقرة إلى شمال سورية. إنها الأنظمة التي يتعلم بعضها من بعض كيف أنه لا مكان لنظام ضعيف في منظومة التعسف والقتل والفساد. فالحكومة اللبنانية مثلاً وليدة علاقة استتباع النظام في سورية «الشقيقَ اللبناني»، وعلى رغم ذلك يشعر الشقيق المُستتبع بأن خروج «الجهاديين» من طرابلس إلى سورية سيريحه من عبء أمني يُثقل عليه، وربما تولى هذا الشقيق توظيف هذا الأمر في قناعة شقيقه الأكبر ومساعيه لجعل الثورة في سورية عبارة عن عصابات إرهابية. نعم، من المرجح أن النظام في سورية لم يصل إلى مرحلة يشعر فيها بأن «الجهاديين» مهددون لوجوده. ما زال في إمكانه توظيفهم في مساعيه ل «أرهبة» الثورة، وفيما خصومه وحلفاؤه في أنظمة الدول المُصدرة ل «الجهاديين» يشعرون بأنهم بتخلصهم من «جهادييهم» عبر قذفهم إليه مجدداً يتخففون من عبئهم، تتولى المجتمعات صناعة المزيد منهم بانتظار موجة عنف جديدة. في طرابلس اللبنانية جيل جديد من السلفيين الجهاديين، تتراوح أعمار أفراده بين 16 و25 عاماً، وفي طرابلس الليبية جيل مشابه لم يسبق أن انتمى إلى الجماعة الليبية للدعوة والقتال، وها هم أفراده يصلون إلى شمال سورية ويلتحقون بجبهة النصرة وبكتائب أحرار الشام. وبينما وصل الجيل الذي سبقهم إلى سورية بتسهيل من «النظام غير العلوي» في طريقه إلى العراق لقتال النظام الشيعي فيه، ها هم اليوم يصلون إلى سورية لقتال «النظام العلوي» فيها. وحدهم السوريون وثورتهم من سيدفع ثمن شقاء الأنظمة المُرسلة جهادييها إلى بلادهم، تماماً كما هم يدفعون اليوم ثمن شقاء نظامهم، وإذا كانت مجتمعات الشقاء هذه وتواريخها الكثيرة، هي مصنع «الجهاديين»، فإن الأنظمة هي المُشغّل والموظف، وهي منظومة تعمل متكاملة متضامنة، وتختار ضحيتها في المنطقة الضعيفة. هي من اختارت العراقيين ضحيتها، وليس أميركا المحتلة من فعل ذلك، وها هي اليوم قد عينت ضحيتها الجديدة. في الحال العراقية وقعنا في فخ المقارنة بين إرهاب صدام حسين وإرهاب تنظيم القاعدة، وأيهما أشد على العراقيين، وهو ما يجب على السوريين إدراكه في ثورتهم. ذاك أن العراقيين لم يباشروا إطاحة صدام عبر ثورة، فقد جاء الأميركيون ليفعلوا ذلك، إلى أن وقعوا في التباس الاحتلال – المقاومة. هذا الالتباس في الوضع السوري سيضع الثورة على محك المقارنة، وليس الاحتلال. النظام يسعى جاهداً ل «أرهبة» الثورة، وثمة وقائع تساعده في ذلك، على رأسها حقيقة توافد «الجهاديين» غير السوريين، ويلي ذلك ممارسات بدأت تشهدها المناطق التي يسيطر عليها الجيش الحر. الدرس العراقي كان مؤلماً للغرب، فقد أثمرت الحرب على صدام ومن بعده على الإرهاب أن تم تسليم العراق هدية إلى إيران. وفي الحال السورية يبدو الغرب منكفئاً، وهو سيضاعف انكفاءه كلما شعر بتمدد «جبهة النصرة» على مساحة الثورة. يجب رفع معدل الحساسية حيال «المجاهدين العرب»، وتجب إدانة ما جرى في سراقب من طرد للصحافيات، ويجب التحقيق بالتفجير الذي استهدف مدينة السلمية، وإذا كانت نتيجة التحقيق أن النظام وراءه، فهذا سبب إضافي للحذر من «الجهاديين».