لا خيلَ عندك تُهديها و لا مالُ فليُسعد النُطقُ إن لم تُسعد الحالُ (المتنبي) يسألني: حين تكتب نصاً شعرياً أو نثرياً تُهديه لهذا أو ذاك من الأصدقاء ساكباً فيه ما يجيش في نفسك من مودة وعاطفة ألا تخشى تقلبات الدهر وتبدل الأيام وتغير الناس؟ ماذا تفعل حين يجافيك مَن كتبت له (ولها) القصائد وأهديته أجمل المشاعر وأنبلها؟ ألا تشعر حينها بالندم والحسرة وتقول ليتني أمحو من ذاكرتي وكُتبي ما كتبتُ وأهديت؟ أجيب سائلي: لا، لا أندم ولا أتحسر. فما كتبته في لحظة صدق هو جزء مني ومن كياني وجوارحي. وحين أهديت فلاناً أو علاناً من الأصدقاء (والصديقات) كان ساعتها في نظري على الصورة التي رأيته فيها وكتبته بها. بل أنني حين أكتبُ أعرفُ أن «الزمن» دوّار، والناس يتبدلون. فلا يبقى على ما هو إلا هو ذو الجلال والإكرام. لكن صدْق اللحظة أقوى من تبدلات الأيام، وما تشعر به حيال إنسان في وقت معين أو حالة معينة لا تمحوه التغيرات الطارئة على البشر والعلاقات!. أجمل قصص الحُبّ انتهت إلى جفاء وانقلبت أحقاداً وكراهيات متبادَلة، والبعض يذهب إلى أن الكره ما هو إلاّ الوجه الآخر للحب. فهل يعني ذلك أن المحبين لم يعيشوا المشاعر الجياشة والعواطف المتقدة لحظة كانوا عشاقاً؟ الأمر نفسه ينطبق على الصداقات والعلاقات الإنسانية المتنوعة. فما نعيشه تجاه إنسان في لحظة معينة هو مشاعر عميقة الصادقة اختمرت في خوابي نفوسنا، ولا غضاضة إنْ تبدل هذا الإنسان أو ذاك، أو انقلب على صداقاته وعلاقاته. سبحان مَن يُغير ولا يتغير. جميعاً عرضة لتحوّلات النفس والمزاج، ولطوارئ الأيام. ألم يكتب المتنبي (مثلاً) أجمل الشعر في كافور ثم كتب النقيض تماماً في هجائه؟ حتى لو كان للمتنبي مرامٌ وغايات، لكن الممدوحُ يتغير، والمادحُ كذلك. لا أحد يعلم ما في الغيب والصدور. المهم أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه أميناً لها. قد يتغير مَن نهديه مشاعرنا على هيئة لغة أو في صيغة قصيدة، وقد نتغير نحن وتتغير مشاعرنا حيال مَن أهديناه. يَصحُّ هذا في الحب مثلما يَصحُّ في الصداقة وسواها من علاقات إنسانية، وإلا كان كل ما كتبته البشرية كذباً بكذب. صدْقُ اللحظة هو المهم، والصدْقُ مع الذات هو الأهمّ. حين نكتبُ لفلانة أو لفلان، إنما نكتب لأنفسنا أولاً. بل إننا نكتبُ أنفسنا على الورق. ولئن كان علي بن أبي طالب يقول: «إن المرء مخبوءٌ تحت لسانه»، فإننا نستطيع القول، نحن معشر الكتّاب والكتابة، إن المرء مخبوءٌ تحت قلمه. الجميل يكتب جميلاً، والقبيح يكتب قبيحاً. كل كتابة جميلة هي فوح النفْس لا مجرد بوحها، وكل بشاعة هي تقرحات نفوس قبل أن تكون تقرحات أقلام. إذاً لا ضير ولا خوف من تغير البعض، أو حتى من تغير الذات. هذه سنّة الحياة وطبيعة البشر، وإلا لبقي كلٌّ منّا يراوح مكانه إلى الأبد. طبعاً نُمني النفْس أن يكون كل تغير وتغيير نحو الأفضل والأنضج، لا نحو الأسوأ والأبشع. فالأيام خير جامعة يتخرج منها الإنسان ولا تتكلل شهادتها العليا إلا بالموت، لأن الكمال أنشودة البشر المستحيلة. أما مسك الختام فببيتين من الشعر لأحمد الصافي النجفي: إذا ما صديقٌ خانَ عهدَ وداده فقد ماتَ والتأبينُ فيه يليقُ هَلّموا وعزّوني وقولوا لكَ البقا ففي كلّ يوم يموتُ لي صديقُ