ألقى الرئيس الأميركي باراك أوباما خطابين في حفل تنصيبه: واحد لنا «نحن الشعب» في أميركا، وآخر إلى بقية العالم. في خطابه إلى «نحن الشعب» كان الرئيس الأميركي لصيقاً بمبادئه التي يستمدها من «إعلان الاستقلال الأميركي حيث الحقيقة واضحة، أن كل الناس خلقوا متساوين». ولكن على رغم وضوح هذه الحقيقة إلا أنها لم تطبّق من تلقاء نفسها. ومع أن الحرية هي هدية من الله إلا أنه يجب أن يتم ضمانها من قبل ناسه على الأرض». قدّم أوباما نفسه، وريثاً للزعيم الأميركي الأسود مارتن لوثر كينغ الذي دافع عن الحريات المدنية وحقوق السود، وأنه هو من سيضمن العدالة الاجتماعية والمساواة والحفاظ على حقوق الضعفاء والمحتاجين. الرئيس أوباما الذي يقول عنه المقربون إنه مسكون بالإرث الذي ستتركه رئاسته، يعتبر أن الولاياتالمتحدة وصلت إلى لحظة تاريخية في حياتها وأن الشعب الأميركي اختاره وعليه أن يغتنم هذه اللحظة لإعادة صوغ أميركا وفق المبادئ التي تأسس عليها الاتحاد والقيم التي نادى بها الرئيس أبراهام لينكولن ومن ثم مارتن لوثر كينغ. هذه علامات اللحظة. قال في خطابه: «إن عقداً من الحرب ينتهي الآن. الاقتصاد بدأ يتعافى. إن إمكانات أميركا لا حدود لها. إننا نملك كل الصفات التي يتطلبها هذا العالم الذي بلا حدود: الشباب والاندفاع، التنوّع والانفتاح، القدرة اللامتناهية لكي نتحمل الأخطار ونعمة إعادة الاختراع. أيها الأميركيون، إننا صُنعنا من أجل هذه اللحظة، وسنغتنمها إذا ما اغتنمناها معاً». يتحدى الجمهوريين وفي ما اعتبره الجمهوريون تحدياً لهم اعتبر الرئيس أن أميركا «لا يمكن أن تنجح حيث تزدهر حفنة من الناس عددها إلى تضاؤل، بينما الكثيرون غير قادرين على البقاء (...). إننا لا نعتقد أن الحرية هي للمحظوظين فقط، والسعادة لقلة. إننا نعتقد أن ازدهار أميركا يجب أن يرتكز على أكتاف طبقة وسطى صاعدة». هذا الكلام هو كابوس لمعارضيه سواء في الكونغرس أو في أنحاء الولاياتالمتحدة الذين يعتبرون أن جزءاً كبيراً من الشعب الأميركي (47 في المئة قال المرشح الجمهوري ميت رومني) يعتاش على ظهر الحكومة الأميركية ولا يريد أن يعمل. ويرى الجمهوريون أنه لا يمكن إصلاح الاقتصاد وتخفيض العجز إلا إذا تم تخفيض البرامج الاجتماعية مثل الضمان الصحي المجاني والإعانات الاجتماعية. ولكن أوباما دافع عن هذه البرامج الاجتماعية في خطابه، معتبراً أنها «لا تمتصّ المبادرة فينا بل تقوّينا»، إنها «لا تجعلنا أناساً من الذين يأخذون، إنها تحرّرنا لاتخاذ الأخطار التي تجعل هذا البلد عظيماً». هذا الخطاب يمثّل أوباما وما يؤمن به أكثر من أي خطاب ألقاه حتى اليوم. فالولاية الثانية حرّرت الرئيس الذي لن يترشّح في أية انتخابات أخرى بعدما أطلق فوزه يديه. وهو قدّم في خطابه خريطة الطريق لولايته الثانية ولكن ما جاء فيه بالنسبة إلى السياسة الداخلية الأميركية ينذر بمعركة قاسية بينه وبين الجمهوريين ربما جعلت شهر عسله السياسي ينتهي فور نزوله عن المنصّة. ولكن ماذا عن الخطاب الثاني، خطاب الرئيس أوباما للعالم؟ على عكس خطابه الداخلي، أتى الجزء الخارجي، الصغير جداً والذي لم يتعدَّ الفقرة ليشدّد على ما قاله الرئيس للشعب الأميركي. الرئيس أوباما يتطلّع إلى الداخل وهو يريد أن يكون إرثه السياسي في إعادة بناء أميركا ولكي ينجح في ذلك يجب أن يتصالح مع العالم لكي تتوافر لديه القوة والموارد اللازمة لتأمين النجاح. وإذا كان خطابه الداخلي مجبولاً بالتحدي أتى خطابه الخارجي ضعيفاً وربما يسيء العالم قراءته ويعتقد أن أميركا ستنكفئ على نفسها ولن تواجه التحديات الكثيرة اليوم لها ولحلفائها حول العالم. فالرئيس الذي أنهى حرباً أميركية (العراق) وفي طريقه إلى إنهاء الأخرى (أفغانستان) يعتبر أن «الأمن والسلام الدائمين لا يتطلبان حرباً دائمة». فهو يعلم أن الشعب الأميركي تعب من الحرب على أرض الآخرين ودفع ثمناً باهظاً في الأرواح «ويعرف الثمن الذي دُفع للحرية». ويعتبر نفسه وريث الذين «ربحوا السلام وليس فقط الحرب، وحوّلوا أعداء لدودين إلى أصدقاء موثوقين»، وهو سيسير على خطاهم «ويجب أن نحمل هذه الدروس إلى يومنا هذا». السلام مع الآخرين وبعدما أكد «أننا سندافع عن شعبنا ونحافظ على قيمنا من خلال قوة السلاح وحكم القانون»، قال: «إننا سنتحلى بالشجاعة لنحاول أن نحلّ خلافاتنا مع الدول الأخرى سلمياً، ليس لأننا سذاج حول الأخطار التي نواجه ولكن لأن التواصل يستطيع تبديد الشكوك والخوف على المدى الأطول». لكن المشكلة بالنسبة إلى أوباما هي أن سياسة «التواصل» التي تبناها في ولايته الأولى لم تؤدِّ إلى أي نتيجة وأبرز مثل هو سياسة مدّ اليد إلى سورية وإيران التي لم تجد يداً مقابلة في إيران، وهدّد اللهيب السوري بإحراق الأخرى. وحاول أوباما أن يطمئن الحلفاء حين أكد أن «أميركا ستبقى الركيزة للتحالفات القوية في كل زاوية على وجه الأرض. وسنجدّد هذه المؤسسات التي توسّع قدرتنا على إدارة الأزمات في الخارج لأنه ليس لأحد مصلحة أكبر من مصلحة الدولة الأقوى في عالم سلمي». إن ما قصد به الطمأنة من أن أميركا هي «الدولة الأقوى»، يثير القلق لأن الرئيس الأميركي يتحدث عن «إدارة الأزمات في الخارج»، وليس حلّها. فإذا كان الدور الأميركي سيقتصر على إدارة الأزمة فإن أياً من أزمات المنطقة لن تجد حلاً بل سيجري فيها الحفاظ على الوضع الراهن. والرئيس أوباما هنا وكأنه يتحدث بروحية ملهمه الروحي الرئيس أبراهام لينكولن الذي قال في خطابه في حفل تنصيبه لولايته الثانية «من دون ضغينة تجاه أحد، وبالحسنة للجميع»، دعا إلى «تضميد جراح الأمة وعمل كل ما يحقق السلام العادل والدائم ويقدّسه بين بعضنا ومع جميع الأمم». اللافت في الخطاب تأكيد الرئيس أن بلاده ستدعم «الديموقراطية من آسيا إلى أفريقيا ومن الدول الأميركية (اللاتينية) إلى الشرق الأوسط، لأن مصالحنا وضمائرنا تجبرنا على العمل باسم أولئك الذين يتطلعون إلى الحرية». منتقدو إدارة الرئيس أوباما الأولى كانوا يأخذون عليها عدم دعم أجندة الديموقراطية بل الابتعاد عنها لأنها كانت أصبحت مرتبطة باسم الرئيس السابق جورج بوش. سيكون مهماً في خطاب الرئيس أوباما المقبل حول «حال الأمة» الذي يلقيه أمام الكونغرس أن نعلم كيف ينوي دعم الديموقراطية ومساعدة الذين يتوقون إليها إذا كانت أنظمة الحكم في بلادهم تستخدم الرصاص والمدافع والطائرات لإسكات أصواتهم بدلاً من صناديق الاقتراع. في حفل التنصيب تمنّت السيدة التي قرأت الدعاء له في ولايته الثانية أن يتحرك «بشجاعة ولكن بحذر». والرئيس أوباما تحرك خلال ولايته الأولى بالكثير من الحذر. أما في خطابه إلى الشعب الأميركي فقد أظهر الكثير من الشجاعة الخارجة من رحم الحرية الجديدة التي ربحها بفوزه وبتحرره من عبء الحالات الانتخابية. وفي خطابه إلى العالم، أظهر الحذر نفسه، ولكن العالم يتطلع اليوم إلى شجاعة رئيس يكون إرثه التاريخي بلا حدود تماماً مثل آماله للشعب الأميركي. * مستشارة في الشؤون الدولية - واشنطن