كان الفرنسي جيل جاكيه الصحافي الغربي الأول الذي يقتل في أحداث سورية، وأثار ذلك تكهنات كثيرة واتهامات متبادلة بين المعارضة والنظام هناك. في الذكرى الأولى لرحيله هذا الشهر، قدم «مراسل خاص» البرنامج الذي عمل له جاكيه في «فرانس 2»، تحقيقاً خاصاً حول ملابسات مقتله في حمص، بعنوان «محاولة للاقتراب من الحقيقة»، أبرز تلاعب الطرفين بموته وصعوبة الوصول إلى نتيجة حاسمة في ظل الظروف الحالية في سورية. دخل جاكيه إلى سورية بتأشيرة رسمية وأراد تقديم وجهة نظر النظام، بعدما قدم برنامجه وجهة نظر الثوار. قتل بانفجار قذيفة مدفع «هاون» أثناء تجواله مع فريق صحافي في حي حمصي موالٍ للنظام، واعتبِر قتله حينها «متعمداً» بعد كشف «أشياء مشبوهة»، منها الذهاب إلى حمص «الذي قُرِّر في اللحظة الأخيرة» من قبل السلطات السورية، و «انسحاب» قوات الجيش المكلفة حماية الفريق الصحافي قبل الانفجار وعند أول إطلاق نار، و «التظاهرة المؤيدة في حي عكرمة»، بحيث بدا كأن المتظاهرين «يدفعون الصحافيين الأجانب دفعاً نحو جهة الصدامات»، واستنتج زملاؤه آنذاك أن شيئاً لم يحدث لتجنب المأساة بل بدا كأن «كل شيء حصل كي تتم». بث التلفزيون السوري اتهاماته للمعارضة بقتل الصحافي، وشكّلت الحكومة السورية لجنة للتحقيق في الحادث لم تتضمن ممثلين عن «فرانس تلفزيون». لكن الشكوك كانت قوية لدى الطرف الفرنسي، وحرّكها سؤال: «لماذا انسحب الأمن السوري رغم أن دوره كان الحماية؟». ومنذ أشهر تجري المحطة الفرنسية تحقيقها الخاص من باريس عبر درس كل ما وصلها من أشرطة فيديو، واستجواب معنيين ومحللين سوريين وفرنسيين. بدأ التحقيق مع آخر صورة للصحافي على سطح بناية ثم الانفجار الأخير مع سؤال: «هل وُجِد جيل في اللحظة الخطأ في المكان الخطأ، أم إن قتله كان متعمداً؟». اتهامان للثوار بالقتل غير المتعمد للصحافي: «الثوار هم من أطلقوا النار من حيهم وهو خطأ ارتكبوه لأنهم كانوا يريدون ضرب الحي وليس الصحافيين». الاتهامان جاءا من معارضين سوريين، الأول كشف هويته وهو الصحافي السوري المعارض في فرنسا نزار نيوف. لكنه رفض السماح لفريق التحقيق بالاتصال بالشاهد الذي زوّده بالمعلومة في حمص للتأكد منها لأن «جميع الصحافيين الفرنسيين لهم علاقة بالاستخبارات الفرنسية» كما قال. أما الثاني فهو معارض رفض كشف هويته وكان صرح قبلاً لجريدة «لو فيغارو» الفرنسية بأنها «حماقة» من الثوار وقال إنه لم يكن ممكناً ومناسباً في ظل الظروف المحلية والدولية آنذاك الاعتراف بذلك. توجه المحققان بالسؤال إلى عبدالرزاق طلاس أحد قادة الثوار فنفى الشكوك لأن الثوار، من منطقتهم في باب السباع لا يستطيعون بأسلحتهم الخفيفة (لم تكن لديهم مدافع «هاون» حينها) استهداف المنطقة التي قتل فيها الصحافي الفرنسي. ركز التحقيق هنا على سؤال مهم: «من أين أتى إطلاق النار؟». وبعد درس الفيديو حدد خبير عسكري فرنسي مصدر الطلقات بأنه من الشمال الشرقي وليس من باب السباع المقابل (كما قيل سابقاً). وتتابعت صعوبات أمام فريق التحقيق، مثل رفض الحديث أو كشف الهوية أو إعطاء معلومات شحيحة، سواء من الحكومة السورية التي اكتفت بترداد أن مصدر القذيفة هو باب الدريب (شرق حمص) أم جامعة الدول العربية التي كانت قدمت تقريراً عن القضية. كشف التحقيق الفرنسي أن تقرير الجامعة آتٍ من الحكومة السورية لأن فريق الجامعة غير مخول إجراء أي تحقيق، بل تقديم الشهادة فقط و «ليس من الممكن أن تتهم الحكومة السورية نفسها» وفق شهادة خبير مصري محايد. وتوجه المحققان نحو مذيعة منشقة (علا عباس) أكدت فقط وجود شبيحة قادوا الفريق الصحافي نحو الوجهة المحددة. ثم نحو منشق من جهاز الاستخبارات السورية في باريس، حلل وفق خبرته السابقة مشاهد فيديو للحدث، فأشار إلى وجود رجل على السطح كان يعطي إشارات محددة هي في رأيه لتحديد الهدف لآخرين وانسحب قبل الانفجار. في النهاية ركز التحقيق على احتمالين: «القتل الخطأ» بيد الثوار الذين أرادوا استهداف الحي الموالي أو «المتعمد» من الأمن «لردع الصحافيين الأجانب عن المجيء». وعن السؤال الذي شغل زملاء جاكيه في التحقيق: «هل كان ضحية تلاعب من النظام»؟ قدم أنور مالك العامل في فريق الجامعة العربية في سورية كل الشواهد التي تثبت قدرة النظام السوري على التلاعب، لكنه أشار إلى عدم وجود براهين لديه حول الفاعلين. بذل المحققان جهوداً لمعرفة الحقيقة في موت زميلهم، لكنه «تحقيق مستحيل» في ظل حرب في «مكان مغلق»، كما وصفوا الوضع السوري، من دون صحافيين أو شهود حرب واضطرارهما لإجراء تحقيقهما من باريس لاستحالة المهمة في سورية. وقد قضيا أشهراً لإيجاد كل هؤلاء الأشخاص والحديث معهم لا سيما في ظل ما وجدوا أنه «تلاعب» بالقضية وعدم «قيام النظام بالتحقيق فيها». جيل جاكيه هو واحد من 19 صحافياً و46 ناشطاً صحافياً من السوريين وأكثر من 60 ألف سوري قضوا في الحرب. فمن يحقق في مقتل هؤلاء ومَن المسؤول عن قتلهم؟ وأي تحقيق سيظهر الحقائق وشهدنا كم هو صعب إثبات حقيقة واحدة؟