تعددت الروايات والاجتهادات عن بواعث الحرب الدائرة في مالي ومصيرها. تلخص إحدى الروايات الموقف الفرنسي من الحرب بتصريح أدلى به وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان عن الهدف من التدخل العسكري تحدث فيه عن «إزالة هؤلاء الإرهابيين الذين يهددون أمن مالي وأمن وطننا فرنسا وأمن أوروبا». وهناك من التطورات ما يشير إلى أن الحكومة الفرنسية تحمست لشن هذه الحرب واستعدت لها منذ فترة غير قصيرة، وأنها قضت هذه الفترة تحاول تشكيل حلف دولي تتولى فرنسا قيادته ويحصل على إذن بالتدخل من مجلس الأمن الدولي ومؤسسات الاتحاد الأوروبي ويعتمد على غطاء أفريقي من دول مستعدة دائماً لتوظيف جيوشها في حروب خارج حدودها. تعددت فرص ممارسة هذا الدور من جانب الدول الأفريقية إلى حد بات من الممكن عنده الاقتناع بالتفسير القائل إن هذه «المأموريات العسكرية» تلبي أحد الطقوس حين كانت القبائل تختار مناسبات تجرى خلالها معارك صورية احتفالاً وتدشيناً لوصول الشباب إلى مرحلة البلوغ. تشير التطورات أيضاً إلى عدد من الأمور ذات المغزى الاستراتيجي، منها: أولاً، على سبيل المثل، ما تأكد عن استمرار حكومة الرئيس باراك أوباما في إصرارها على عدم التدخل المباشر بقوات برية في أي نزاع دولي، والاكتفاء بتقديم المساعدة للدول الحليفة التي تقود التدخل العسكري، وهو ما فعلته في الصومال أخيراً متعاونة مع القوات الخاصة الفرنسية. من الواضح أيضاً أن أوباما يلجأ إلى هذا الأسلوب في التعامل مع النزاعات الحادة لتفادي الدخول في مواجهة مع الكونغرس الأميركي والرأي العام الذي يرفض أي تدخل عسكري أميركي جديد في الخارج. ثانياً، ما تأكد عن عجز أوروبا عن تبني سياسة خارجية موحدة تجاه قضايا معينة مثل الحرب ضد الإرهاب أو أمن دول الجوار القريب مثل الدول الأفريقية. إذ إنه بعد أن قررت فرنسا مضاعفة عدد قواتها المتدخلة في مالي إلى حوالى 2500 جندي، راحت «تستجدي» المساعدة من الدنمارك وبريطانيا والولايات المتحدة. الأخيرة وعدت بالدعم اللوجيستي والجوي، أما بريطانيا فقد انقسم الرأي فيها بين الجناح العسكري والجناح السياسي، إذ حذر العسكريون من التدخل في مالي مقدمين سببين على الأقل، أولهما أن القوة العسكرية البريطانية المدربة على الحروب في الخارج متناثرة في أنحاء شتى من العالم وليس لدى بريطانيا عدد كاف من الطائرات بدليل أنها استدعت طائرتي نقل من أفغانستان لنقل المؤن الفرنسية إلى القوات في مالي، بل إن الطائرة الأحدث التي تخصصها بريطانيا لحالات طارئة تعطلت في أول رحلة لها في باريس، الأمر الذي يشير إلى أن القوات العسكرية البريطانية ليست في وضع يسمح لها بالتدخل المباشر أو الواسع. السبب الآخر الذي دفع العسكريين البريطانيين إلى التحذير من تدخل بريطانيا في مالي هو التجربة المريرة التي دخلتها القوات البريطانية عندما تدخلت في فريتاون أثناء الحرب الأهلية في سيراليون وكان الثمن الذي دفعته بريطانيا باهظاً. من ناحية أخرى لا يخفي العسكريون ذهولهم من السرعة التي تمكن بها المتمردون في مالي من تجميع صفوفهم بعد ثلاثة أيام من عمليات القصف الجوي الرهيب من جانب القوات الفرنسية، إذ تمكنوا من عبور النهر ليلاً تحت القصف واستعادة مدينة ديابولي بكفاءة كبيرة. لذلك، يبدو لنا أن البريطانيين يتوقعون أن تأخذ الحرب في مالي مسالك متعددة لم يستعد لها الفرنسيون. ويشيرون بصفة خاصة إلى ظاهرة جنود الجيش المالي الذين ينقلبون فجأة ضد قادتهم وحلفائهم الأجانب، ولا ننسى أن بعض هؤلاء الجنود والضباط هم الذين أسقطوا حكومة مالي وغالبيتهم تدربوا على أيدي المستشارين الأميركيين، هذه الظاهرة نفسها موجودة في أفغانستان وتهدد حياة جنود حلف الأطلسي العاملين هناك. ثالثاً، من التطورات ذات المغزى ما أقنعني شخصياً بأن السبب المباشر للحرب في مالي قد لا يخرج عن أنها ليست سوى نتيجة حتمية للتدخل العسكري الغربي في ليبيا. يتبين الآن أن كثيرين من المقاتلين المتمردين على حكومة مالي كانوا جنوداً في جيش القذافي، وبعضهم تعرض لقسوة شديدة من جانب الثوار الليبيين الذين طاردوا وقتلوا الكثير من الأفارقة السود في ليبيا. كذلك، فإن كميات هائلة من الأسلحة من كل الأنواع أمكن تهريبها من ليبيا إلى مالي ودول أخرى في الجوار ومنها مصر، ووقعت في أيدي المتمردين والقوى الإسلامية المتطرفة. من ناحية أخرى لا يخفى على متابعي الوضع في ليبيا قبل الثورة وبعدها أن حكومة القذافي كانت ناجحة في تأمين حدود ليبيا الجنوبية والغربية والسيطرة على بعض قيادات شعب الطوارق. غالب الأمر هو أن حرب ليبيا تسببت في تجديد حماسة الطوارق للمطالبة بوطن قومي أسوة بالأكراد والصحراويين، خصوصاً بعد أن أصبحوا أكثر وعياً وأشد بأساً. لا أتردد في الإعراب عن قناعتي بأن الأزمة في مالي، لاعتبارات متعددة وليس فقط باعتبارها امتداداً للتدخل الأجنبي في ليبيا، ستفرز أزمات أخرى في المنطقة. وربما امتد مسلسل الأزمات المتوقعة إلى دول أخرى في أوروبا أو ضد رعاياها في الخارج وهو ما حدث بأسرع من كل التوقعات في مجمع نفطي بالصحراء الجزائرية في موقع متاخم للحدود مع ليبيا. لا ننسى ولا يجب أن ننسى أن مالي الآن وهي الدولة التي تعادل مساحتها مساحة أفغانستان وأكبر من مساحة فرنسا، هي الدولة الإسلامية الثامنة في الترتيب بعد العراق وأفغانستان وباكستان واليمن وليبيا والصومال والفيليبين التي تتعرض لأعمال عسكرية تقوم بها قوات تابعة لدول «غربية» ويسقط ضحيتها مدنيون وكثير من النساء والأطفال. الإرهاب قائم ولا شك في وجوده، ومقاومته ضرورة للسلم والاستقرار، ولكن من الصعوبة بمكان وستبقى صعبة الجهود المبذولة لإقناع مئات الملايين من المسلمين بأن الحروب التي تشن منذ سنين عدة من جانب الغرب تتعلق فقط بالإرهاب والإرهابيين. وبالتالي يصعب أن نتوقع توقف المجتمعات الإسلامية عن أداء وظيفة التربة الخصبة لتوليد إرهابيين ومتطرفين من جميع الأنواع والمذاهب. أشعر بتعاطف شديد مع الجزائر التي، بفضل وعيها السياسي وتجربتها الأليمة وواقعها الداخلي وجغرافيتها السياسية، قاومت وببسالة لفترة، شتى أنواع الضغط الأميركي والفرنسي عليها لتشارك في قيادة الحلف العسكري ضد جماعات التطرف المسلحة في مالي وغيرها. رابعاً، أشارت التطورات إلى أمر آخر لا يقل أهمية في مجرى الأحداث التي تحيط بقضية التدخل في مالي. إذ يتأكد يوماً بعد يوم أن دعم الفرنسيين تدخلَ حكومتهم العسكري في مالي يخفي مظاهر قلق من تدهور وانحدار في الدولة، فالبطالة ما زالت عند حاجز العشرة في المئة ونسبة النمو تقف عند الصفر ونصيب فرنسا في التجارة العالمية مستمر في الهبوط وأزمة النخبة السياسية وفضائحها متفاقمة ومكانة فرنسا الأوروبية تنحسر لمصلحة ألمانيا واليورو لم يتعافَ. أكاد أجزم بأن الأمور في شمال أفريقيا، وكذلك منطقة الساحل، لن تهدأ طالما استمر تراجع مكانة فرنسا الأوروبية واستمرت الصعوبات التي تواجه الاقتصاد الفرنسي. فرنسا تحنّ مادياً ومعنويا أكثر من أي وقت مضى إلى إرث العهد الاستعماري. * كاتب مصري