في جو مشحون بالجهل والتقليد والجمود، جاء محمد عبده من أعماق الريف المصري، لكي يكون عالماً خارج السياق المعتاد للعلماء المتعارف عليهم في عصره، فالكل مشغول بالحفظ والترديد لا الفكر وإعمال العقل، وهما من أولويات الإسلام كدين. هل كان لخروج هذا العالم عن النمط المعتاد دور في جعله شخصاً غير عادي، أم أنه حسن الإدراك لمعطيات العصر ومدى حاجة الناس إلى فهم صحيح للدين القائم على أسس سليمة، استطيع أن أجزم أن محمد عبده كان رجل دين أدى دوراً سياسياً، لم يكن شخصاً خارقاً للعادة، بل كان فطناً أدرك تحولات العصر من نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث المخُترَعات تغير حياة الناس، والدولة تتغير وظيفتها، فجاءت كل فتوى أصدرها إما بمثابة اجتهاد جديد أو محاولة لفهم الواقع المعاش في ضوء الأحكام العامة للفقه الإسلامي. كان أهم ملمح للإدراك لدى محمد عبده، هو تدريسه مقدمة ابن خلدون في دار العلوم، بدلاً من غيرها من الكتب، فعلم العمران عند ابن خلدون هو الفهم الحقيقي لآليات حركة المجتمع وصيرورة الحياة وقيام الدول وانهيارها، وكانت كتابة المقدمة بمثابة جرس إنذار ليتنبه العرب إلى سقوط حضارتهم وصعود حضارة الغرب. إذاً لمحمد عبده دور في فهم أهمية تحديث الدولة المصرية واستيعاب مفهوم المواطنة، وإذا كان انضم للثورة العرابية فإنه قبل الثورة وبعدها رأى أن التربية والتعليم أساسيان لتكوين رجال يقومون بأعمال الحكومة النيابية على بصيرة مؤيدة بالعزيمة، وحمل الحكومة على الإصلاح والعدل ومنهما تعويد الأهالي على البحث في المصالح العامة، واستشارتها إياهم في الأمر بمجالس خاصة تنشأ في المديريات والمحافظات.كما نراه يحارب الخرافات بعنف شديد، وهي التي تسببت في جهل الناس بصحيح الدين كلجوئهم إلى المشعوذين والدجالين خصوصاً في ميدان الأزبكية حيث يجتمع حولهم الناس لكي يستطلعوا الغيب، فكتب مقالاً هاجم فيه الحكومة لتقاعسها عن ذلك، بل حمل عليها لكي تأخذ موقفاً صارماً ضد هذا الجهل. واليوم نرى هؤلاء في ثياب علماء على شاشات الفضائيات من دون رادع أو حتى ضمير، بل ظل جهل الناس كما هو، يلجأون إليهم. هذا الجهل الذي أدى بالمسلمين إلى قبول عادة «الدوسة» أي أن ينطرح الناس أرضاً مصطفين أحدهم الى جنب الآخر، ثم يعلو أحد المشايخ على ظهورهم بحصان يدوسهم واحداً بعد الآخر، حتى ينتهي إلى آخرهم، وهي إهانة للمؤمنين مخالفة للشرع، ظل الشيخ الإمام على موقفه من بطلانها، حتى مارس ضغوطاً على الخديوي عباس حلمي الثاني والشيخ البكري لإلغائها وكان لفتواه ببطلانها شرعاً وإصراره على تنفيذها أثراً في حفظ كرامة المسلمين، خصوصاً أن هذه العادة كثيراً ما أثارت سخرية الأوروبيين من المصريين، ووصفها مستنكراً إدوارد لين بول في كتابه «عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم». وكانت مسألة وضع التماثيل في الميادين العامة، حتى ثار على الخديوي إسماعيل المحافظون من مشايخ الأزهر، وأفتى الشيخ عليش آنذاك بكفر ومروق الخديوي إسماعيل، وظل تمثال محمد علي مخزناً في الإسكندرية، ووضع في ميدان المنشية بدلاً من أن يوضع في ميدان محمد علي، إلا أن محمد عبده كانت له فتوى قدم فيها مقدمات عقلية ومنطقية لجواز التصوير وصنع التماثيل، فها هو يقول ما حكم الصور في الشريعة الإسلامية، إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية، أو أوضاعهم الجسمانية. ثم يتساءل هل هذا حرام أو جائز؟ أو مكروه؟ أو مندوب؟ أم واجب؟ فيجيب الشيخ الإمام على تساؤله: إن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة محي من الأذهان وبين أن الصور أو التماثيل كانت تتخذ في أيام الوثنية لسببين: الأول: اللهو والثاني: التبرك مثل من رسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين، والثاني: مما جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغل عن الله أو ممهد للإشراك به، ويؤكد في فتواه، أنه إذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة، كان تصوير الأشخاص بمنزله تصوير النبات والشجر في المصنوعات وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف، وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء، مع أن الفائدة في نقش المصاحف موضع النزاع، أما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر. ولإدراك محمد عبده أن الصور والتماثيل من أدوات العلم في عصره، نجده يقول: «يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين، لا من وجهة العقيدة ولا من وجهة العمل». وفي الوقت الذي كانت فرنسا لا تتيح للمرأة استقلالية اقتصادية عن زوجها، لجأت شركة قناة السويس لمنع امرأة مصرية من بيع أسهم لها في شركة قناة السويس إلا بإذن الزوج طبقاً للقانون الفرنسي، فأفتى الشيخ محمد عبده بأن للمرأة في الإسلام الأهلية الاقتصادية المستقلة، وبالتالي من حق الزوجة بيع الأسهم. مثل هذه الفتوى تكشف سمو الإسلام كدين ورفعة مكانته، بل حينما يطبق في صورته السليمة يؤدي إلى الحقوق البشرية كافة التي تحفظ كرامة الإنسان من دون إخلال بالمبادئ العليا التي أقرها الدين. إن الذاكرة تستدعي من فتاوي الشيخ الإمام فتواه بشق بطن المرأة الحامل المتوفاة، إذا كان في ذلك رجاء لإنقاذ حياة طفل جنين، وها نحن اليوم نتردد في نقل الأعضاء في عصر تقدم فيه الطب، وأصبحت حياة الكثيرين مرهونة بنقل الأعضاء. بل أنه في كثير من الأحيان ولثقة المجتمع فيه، طلب بطريرك الأقباط منه فتوى في شأن مسيحي أسلم طلبت زوجته أن تتسلم أبناءها منه، فأفتى الشيخ أنه من المقرر شرعاً أن حضانة الولد الصغير تثبت للأم ولو كتابية، أو بعد الفرقة، لأن الشفقة لا تختلف باختلاف الدين، وتكررت فتواه للأقباط بل حتى للأجانب المقيمين في مصر. إن استعراض حياة الشيخ الإمام محمد عبده والفتاوى كافة التي أصدرها، ومواقفه من العديد من القضايا التي أثيرت في عصره، ومنها صناديق التوفير التي كان الفقراء يحفظون فيها مدخراتهم، وشركات التأمين والتعامل معها، فضلاً عن تعاطيه مع السياسة بواقعية يُحسد عليها، نستشعر فيها بحثه في الصالح العام، فقد كان ضد فكرة الثورة قبل قيام الثورة العرابية، لكن بقيامها صار معها، ونفي بسببها، واتجه إلى المندوب السامي البريطاني لإصلاح التعليم وفق رؤيته التي يرى فيها التعليم أساساً لمقاومة الاحتلال، كما هادن الخديوي عباس حلمي الثاني واتخذ منه موقفاً حين رأى أن ذلك يتعارض مع الإصلاح. إن حياة هذا الرجل وجه لها نقد لاذع خصوصاً من الدكتور محمد محمد حسين في كتابه عن الأدب المعاصر، وهو ما ترك أثراً سلبياً في الإنتاج الفكري للإمام محمد عبده، ونحن في حاجة ماسة إلى طبع أعماله الكاملة في طبعة شعبية ليتم تداول مثل هذا الفكر. إن مواقفه ذكرتني بابن تيمية في العصر المملوكي الذي أصدر فتاوى عُدت في حينها ثورة في الرأي والفكر، فهوجم الرجل هجوماً حاداً، كما اجتزأت بعض آرائه من قبل البعض لتخدم بصورة أو بأخرى آراء محددة وتيارات بعينها، من دون أن يتم النظر فيها بإمعان وفقاً لمعطيات وظروف العصر الذي صدرت فيه فتاوى ابن تيمية، فالفتوى هي قراءة الواقع في ضوء مبادئ الشرع، لتعطي مخرجاً يسهل حياة البشر لا يعسرها، تحث الناس على العمل لا على التواكل، تأخذ الحديث في العلم في الاعتبار، والعرف الجاري العمل به في المجتمع في الحسبان. * كاتب مصري