تغيرت يومياتهن. لم يعد تذكُّر ملامحهم سهلاً، ولم تعد غرفهم المتروكة على حالها منذ دخولهم سورية خلسةً للانضمام إلى مقاتلي «الجيش الحر»، أنيسةً كالسابق، فالكتب والأسرّة واللحف والثياب فيها، وأجهزة الكومبيوتر وأشرطة الدعاة وخطبهم المحفوظة على رفوف المكتبات الصغيرة والعطور المسجدية... أمست كلها أجزاء مربكة من البيت. أشياء مربكة لعيون تائهة وحزينة على أولاد لم يُتوقّع يوماً أن يتحوّلوا «صورَ» قتلى على شاشات التلفزة، أو أن يُستقبلوا على دفعات من معبر «العبودية» إلى أحياء طرابلس (شمال لبنان) وقرى وبلدات عكار والضنية-المنية جثثاً مصبوغة بالدم، أو أن يكون غيابُ أحدهم، ممن «لا مصير لهم»، معلَّقاً كالأنفاس المشدودة. تحوّل كل شيء إلى مرارة يتعايشن معها بألفة العادات المكتسبة، فيصبح الحديث عمّن أصبح لهم مصطلح صحافي متداول «جثث مكمن تلكلخ»، حديثاً شبه عابر. لم يعد البكاء فيه شيء مبرر، وكأن المصيبة استُدركت بصمت وافر لا مجال فيه للكلام أو التعبير. بهدوء مَن ينتظر أمراً «خفياً»، جلست السيدة الخمسينية في بيت قريبتها بحي «باب التبانة»، متربعة على أريكة ضيقة، تلحّ بالسؤال لتتأكد أن اسمها أو اسم ابنها لن يُذكر، وبهدوء مماثل أخرجت سيجارتها ودخّنت قليلاً، ثم أطفأتها. لم تنتظر كثيراً كي تقول، ببطء، إن لديها 30 دقيقة فقط، كي تحكي. مصير مجهول لم يكن ابنها وحيد إخوته، لكنه تمتع منذ ولادته بامتيازات خاصة. خرجت به من المستشفى الحكومي في محلّة القبة وهي مصرّة على انه سيكون في المستقبل «مهندساً»، ولم يَخِبْ ظنُّها فيه، إلى أن صار... «مجهول المصير». أحبته مذ كان رضيعاً، كما كل الأمهات. تخبر القصة بلهفة: «كان وجهه هادئاً وصغيراً، حين جاءتني به الممرضة إلى غرفتي عشقته». تحمل صورة له في محفظتها الجلدية، تحتفظ بها مع أوراق ثبوتية وبعض فواتير الكهرباء والبلدية. تُخرج الصورة وتمعن النظر فيها، وبغصّة تقول: «كان يشبهني في كل ملامحه، وحين كبر صار الشبه أكثر وضوحاً». تبتسم وهي تصفه، كأنها تحفظه عن «ظهر قلب». لكنه تغير عليها كثيراً في الشهور الأخيرة، تعترف بانكسار: «لا يعود إلى البيت إلاّ متأخراً، عائداً من المسجد أو من جلسة مع رفاقه الجدد. أصبح عصبياً وجافاً». تعرّف ابنها إلى رفاقه في المصلى القريب من بيتهم، حيث يجتمعون في حلقات «دروس دينية». تذكر أنه منذ سبعة أشهر أرخى لحيته، ومعها أرخى الكثير من العادات وأهملها. ترك رفاقه في الحارة، ونسي مشاغباته، وأهمل شغفه برسم وشم على كتفه كرفيقه حسام. تقول: «نضج فجأة. لم يعد الطفل الذي كنت أراه أمامي كل يوم يشتعل حياةً»، وتضيف: «صارت عاداته اليومية عبادات وصلوات وذكراً، وأخذ يغيب في رحلات متكررة إلى مناطق جبلية أو مخيمات. لم أتعرف إليهم لأنهم لا يحضرون إلى بيوت فيها نساء». كل مَن في البيت تعجَّبَ لحاله، فليس في البيت أشخاص ملتزمون في شكل كلّي. صار يتدخل في تصرفات إخوته البنات ولباسهن ومعشرهن. لم يَرُقِ الأمرُ لهن في البداية، ثمّ اعتدن عليه. شعرت الأم أن ابنها «اهتدى» إلى الطريق الصحيح، لكن وجوده في البيت تحوّل «كابوساً». تقول: «التململ الذي كنّا نعانيه لم يلبث أن خفّ مع مديح الجيران لتصرفاته وأخلاقه». القصة تبقى «مكتومة»، ورحيله عن المنزل لم يكن مفاجئاً، لكن الوجهة لم تعرف. لم يحكِ عن خطته لأحد. قرّرت الأم أن تبوح بما تعرفه لأنها مخنوقة: «قال لي إنه ذاهب مع رفاقه إلى عكار ليقضوا وقتهم عند رفيق لهم. لم أسأله، وهو لا يحب الأسئلة كثيراً... لم أعرف أنه ذهب إلى سورية إلاّ بعد انتشار خبر مكمن تلكلخ، فبدأنا نسأل، مثل كثيرين. تأكدنا بعد أيام أنه كان معهم». وتوضح ان «الحديث عن الموضوع لا يزال مكتوماً والقصة غير معروفة». لا تعرف الأم المفجوعة مَن «ورّط» ابنها والمجموعة في الذهاب إلى جحيم لا رجعة منه. تعرف أنه ذهب معهم، ومن ذلك الحين أمست «مهووسة» بأخبار الجثث الآتية من سورية. فابنها لا مصير له، ولا تعرف إن كان مات أو لا يزال حيّاً. لكنها تبدو واثقة بما يقطع الشك باليقين من أنه حي يُرزق، وقلبها «لن يخيب». تحوّل «الجحيم السوري» إلى حكاية يومية في بيتها الذي «أصبح فارغاً» بعد أن تركه جمال (اسم مستعار)، وتركها معه «ناقصة وغريبة». تعرف أن مصير ابنها، الذي أكمل التاسعة عشرة «غير معروف»، ودخوله سورية يعني أنه دخل إلى المجهول من بابه العريض، وتحاول الاحتفاظ في مخيلتها بصورته التي أحبتها . سلوى «الشهادة» حالها من حال السيدة ربيعة (اسم مستعار) التي استعادت عافيتها من صدمة الموت. قُتل ابنها على أرض «تلكلخ»، وعاد إليها محمولاً على الأكتاف «شهيداً ورمزاً»، تقول: «أعرف أنه مات من أجل القضية. من أجل أحرار سورية. لست حزينة. كنت أتمنى ألاّ يموت، لكن هذا خياره، والجهاد واجب لنصرة إخوانه المسلمين المظلومين». تعرف أن كلامها مؤلم، لكنها اقتنعت بأن ابنها في الجنّة، ولا شيء يعوّضها عن هذه الفكرة. تقول:» وزّع الجيران وأهالي الحي الحلوى عن روحه، هو شهيد بإذن الله، وفرحتي كبيرة لأنني سألتقي بابني في الجنة». لا ملامح للتدين في وجه ربيعة، لباسها عادي، مع سواد تحت عينيها. استوعبت موت ابنها بسرعة. هي ناقمة على نظام الأسد، ولا يخلو الحديث عن ابنها الذي بلغ الثالثة والعشرين من عمره وكان يحضّر لخطوبته، من يوميات الحاضر السوري: المجازر والقتلى ومشاهد ال «يوتيوب» وما تعرضه القنوات من أعمال العنف... كأن ابنها جزء من الثورة السورية أو تفصيل غير مهم في حياتها، طالما أن هذه الثورة «مستمرة». نسوة لم يعرفن إلاّ متأخرات أن أولادهن التحقوا برحلة «جهادية» إلى سورية تاركين أغراضهم على حالها، فلا استئذان ولا وداع. شاؤوا الخروج إلى أماكن القتل من دون كلام، فهم أرادوا عن اقتناع «شهادةً» داخل أرض سورية. أمهات أخريات شاهدن أولادهن جثثاً على الأرض في مكان ما «غير محدد»، حين بثّت قناة «الدنيا» السورية صورهم غارقين بالدم المتخثر، وشاهدوهم أيضاً بفيديوهات «لا هوية لها»، تناقلها الناس بعد أيام من اختفائهم على هواتفهم الخليوية. كانوا يُضربون ويُنكّل بهم وهم صرعى الموت. صُدمن بأن أولادهن الذين اختفوا في ليلة ظلماء باردة وتحت المطر، صاروا على الضفة الحامية من أزمة سورية المفتوحة. وترتسم دهشة صامتة على وجوههن لمصير لم يتخيلنه يوماً لأبناء ضجّوا بالحياة.