لم أدرك تماماً قدر الثروات التي تخرج من بلادنا سنوياً عبر تحويلات بنكية إلى كل أصقاع العالم، حتى ربطتني الحاجة بالعمالة الوافدة بمختلف المهن، كنت أرى هؤلاء مساكين يستحقون الصدقة، المشمولة بالرأفة والشفقة، فاكتشفت بأننا نحن المساكين المستحقين لأكثر من ذلك، فهؤلاء بلا مبالغة هم أسياد المدن وصنّاعها، بينما نحن المساكين نقف متفرجين، أوقاتنا تضيع هدراً بما لا طائل منه، فهي مشحونة بالفراغ، مكدسة بالقيل والقال، صنّاع المدن الحقيقيون لا وقت لديهم، فأيديهم تتحدث وعقولهم منصبة على لملمة النقود من جيوب العاجزين عن إصلاح أبسط عطب أو خلل منزلي. فماذا نجيد نحن بالله عليكم، وقد تقاسمتنا الوظائف ونثرتنا بين مقاعدها، يعبث بنا الملل، نؤدي أعمالاً روتينية مكررة، مغيّبون تماماً عن العمل الحقيقي الذي يبني الأوطان ويعمرها بقوة العقل واليد. أسألكم بالله: ما الذي يُرغم عاملاً على دفع مبالغ طائلة للحصول على «فيزة» عمل في بلدنا؟ أليس ثمة شيء عدا الثروة؟ فما سيحصده هؤلاء أضعافاً مضاعفة، من أموال ستحقق لهم كل آمالهم وأحلامهم العريضة، أما ما يجنيه شبابنا الموظفون فلا يكاد يفي بمتطلبات حياتهم الشهرية، ليقعوا فرائس لحيل البنوك وإغراءاتها، الشيء الوحيد الذي يميزهم، نظافة أثوابهم، واعتدال «العُقل» فوق هاماتهم، مع إضافة أخيرة تتمثل في الجوالات التي ألحقتها بين أيديهم تقنية الاتصالات الحديثة المتطورة وبرامجها المتنوعة. السؤال الذي ظل يدور في خلدي ولا أجد له إجابة محددة: من الذي أوصل شبابنا إلى هذا القاع من الدعة والتفريط والتخاذل، وصرفهم عن قيم العمل الحقيقية التي تُشيد الأوطان؟ فبالله عليكم، وأنا أسأل مع قناعاتي الكاملة بأنكم تتفقون معي ولو جزئياً في ما أذهب إليه: من يشيد اليوم صروحنا الحضارية التي نوشك أن نتباهى بها؟ ومن سيحصد ثروات كل المشاريع التي تعد بها خططنا الخمسية المقبلة؟ لنعيد لف البكرة من جديد، ونسأل جدياً لعل العثور على إجابة شافية تلخص لنا القضية... لماذا أُستُبعِد العمال السعوديون من المشاركة عملياً من وضع لبنات نهضتنا الأولى التي أُستجلب من أجلها عدد من الشركات العربية إبان خمسينات القرن الماضي؟ ثم أين ذهب العمال السعوديون الذين ابتلعتهم شمس صحراء «أرامكو»؟ هل نحن نتيجة تراكم تاريخي استهدفت فيه الأيدي العاملة السعودية، وزُرع عوضاً عنها نبتة خبيثة تُسمى وظيفة مكتبية؟ صدقاً هذه أسئلة تفاقمت داخلي وأنا أرى العمال الوافدين يغذون حساباتهم البنكية من خيرات بلدنا ونحن عاجزون عن مجاراتهم أو حتى تقليدهم؟ حتى أصبحنا عاجزين تماماً عن إدارة بيوتنا. لن أتبنى نظرية المؤامرة وأرجو ألا تكون كذلك، وإن لم تكن كذلك يأتي السؤال: لِمَ استمر هذا العجز بما يشبه الإعاقة المستديمة؟ أعلم كما تعلمون أن ثمة محاولات جادة لإيجاد أرضية صلبة لأيدٍ عاملة سعودية، تقدر المهنة من خلال المؤسسة العامة للتدريب المهني والتقني، حتى وصل عدد كلياتها ومعاهدها قرابة ال«100»، ومع ذلك قيمة العمل المنشودة لا تزال في حالِ ضِعة... بالله، من يفسر لي معنى أن تعتمد أكثر الهيئات والمؤسسات، وحتى الوزارات، على أيدٍ عاملة أجنبية للقيام بأعمالها التي تحتاج لأيدٍ عاملة من سباكين ونجارين وحدادين وكهربائيين. لننظر إلى المشاريع القائمة حالياً في مدينة الرياض، على سبيل المثال، ولنبحث عن عدد العمالة السعودية من بين كل الجموع الغفيرة، لن تحتاج إلى القيام برصد إحصائي دقيق، فالمشاهدة كافية، والنتيجة مخيبة جداً، هذه النتيجة الدالة على عجزنا عن إيجاد أرضية صلبة للأعمال المهنية والفنية تسحب شبابنا من أزمة البطالة، ومنهم خريجو المعاهد الفنية والمهنية والتقنية، ومع ذلك لم تخرج دراسة علمية تستقصي عمق المشكلة وتستجلي أسباباً واضحة لما يُسمى عزوف الشباب عن الإقبال على الأعمال المهنية. ثمة ملمحان أو مؤشران يساعدان في فهم جزء من المشكلة، الأول مرتبط بالثقافة ذات البُعد الاجتماعي الذي كان ولا يزال عند البعض يضع المهنة في حيز العيب المحرض على الإقصاء والاستبعاد، والآخر تاريخي وهو وثيق الصلة بفترة الطفرة التي عبرت البلاد سريعاً وخلفت وراءها أنقاض مجتمع يحتاج إلى وقت طويل كي يُعيد ترتيب حياته، وذلك عندما جرت الأموال بين أيدي الناس من دون عناء، وخرجوا منها صفر اليدين، لأنها لم تجرِ وفق رؤية واضحة... ما زاد الطين بلة وأقصى الشباب عن روح العمل البناء انخراطهم بقوة الدفع والجذب في استقطابات فكرية وصحوية فرغتهم من حسهم الانتمائي للوطن، وجعلتهم متعلقين بما يقوله فلان ويصرخ به علان ما لا رصيد له في واقع الإنسان. نتصور، أقول لنتصور فقط، في ما لو استغلت المنابر والإعلام والصحافة في تمجيد العمل وتقديس لقمة العيش التي تأتي من عرق الجبين، عوضاً عن دفعهم لساحات القتال في بلاد بعيدة، وسفك دماء تحت مظلة دعايات واهنة، لتحقق لنا الاستقلال الذي يكفينا مؤونة استجداء الغير وتكالب الأمم علينا، ولرأينا الشباب الذين أزهقت أرواحهم بأحزمة ناسفة يحملون اليوم «عدة» العمل، ويعتمرون الخوذات الواقية بين معاول البناء والتشييد، هذه الصورة تشبه الحلم، لأن الواقع اليوم لا يمنحنا مؤشراً يزيد من أرصدتها ليجسده واقعاً حياً بيننا، فلا نزال مهمومين ومتشاغلين بالخطب الغوغائية وترديد الأفكار العقيمة، واستعراض الإرادات الوهمية المزعومة التي لا طائل منها إلا لأصحابها الذين يمارسونها بما يشبه الدجل والشعوذة... فهل من مدكر؟ [email protected] @almoziani