أمكن عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو أن يكون سبّاقاً في التنبيه إلى كثير من آليات التلاعب بالعقول التي قد يشكلها جهاز التلفزيون في سياق تعاطيه مع قضايا الجمهور الأكثر عمومية، والمتبناة اليوم على أكثر من صعيد... حتى بتنا شاهدين عليها بأشكال مختلفة، لجهة البرامج والأخبار المحلية التي تشكل عوامل جذب كثيرة، ونسباً عالية في المشاهدة وسبل الأخذ والرد، وهو ما يفوق كثيراً من التوقعات. لن تكون تنبيهات بورديو في هذا السياق وحيدة في هذا الشأن. هناك كثر يتعاطون في شؤون هذا الجهاز العجيب لدرجة أننا سنصدق أشياء كثيرة تدور من حوله، وتجعل منه أداة «أسطورية واقعية» لجهة تأثيره في صوغ العقول التي يتوجه اليها ويساهم في تغييرها ووضعها على سكة - ربما - لم يكن ممكناً الحديث عنها قبل وجوده. لم يعد سراً أن وجود «متكلم حذق» في برنامج محلي على شاشة صغيرة يجيد الحديث في قضايا مغرقة بمحليتها قد يحل مكان تظاهرة من عشرين ألف شخص على باب بلدية باريس كما يذهب بورديو في توصيفه للحالة. ربما يتعدى الأمر إلى ما هو أخطر من ذلك. يمكننا أن نفترض أن هذا المتكلم الحذق يمكنه أن يعرف رسائله وتأثيراتها في المجال العمومي الذي تذهب إليه، ويمكنه أن يدرك التأثيرات الجانبية التي ستصدر عن دعوته للوصول إلى الحقوق الجماعية لمن يتبنى قضاياهم المجتمعية، وهذا بات مفروغاً منه. الوضع عندنا مع هذه الفورة الفضائية يبدو مقلوباً على رأسه تماماً. ربما تشكل الفوضى أحد أهم عناوينه، وهذا لم يعد ممكناً تجاهله أو التملص منه، بل يبدو انه آخذ في التوسع والازدياد. تطالعنا كل يوم صفحات البث الفضائي العربي بقضايا تبدو مستجلبة من عالم آخر لا يمت الى عالم البشر. ليست قناة «ماريا» للمنتقبات التي يملكها الداعية أبو إسلام آخر هذه الصفحات التي تتلاعب بالعقول على طريقتها. بعض ما يبث من خلالها يشكل تأزيماً للعقل الانساني وتكبيراً لحجم ورطته في عالم يتوسع في شكل عمودي. ليس مهماً معرفة وتفحص هذه القناة التي تقف وراء دعوات مثل قلع الأظافر بالكماشات والذبح كما فعلت أخيراً مذيعتان منقبتان من هذه القناة أرادتا التهويل على الرئيس المخلوع ونجليه بغية استعادة الأموال المسروقة. لا يعود الموضوع متعلقاً بالرئيس ونجليه. تصبح الدعوة نفسها خطراً على المجال العمومي أكثر من سواه. ما فعلته المذيعتان بنا قد يكون أشد فداحة من كل الأموال المسروقة التي تحدثتا عنها عبر قناة «ماريا». ربما لا يمكن تصنيفهما في باب المتكلمات الحذقات. بالتأكيد لا يمكن وسمهما بهذا التوصيف. الأخطر أنهما مع ذلك قد تشكلان جيشاً من غير الحاذقين الذين يهددون المجتمعات العربية اليوم في الصميم أكثر من أي شيء آخر على الاطلاق.