باتت العادة أن يشهد حي عين شمس (شرق القاهرة) المثخن بالصعاب المعيشية، اشتباكات أسبوعية بين الشرطة ومؤيدين للرئيس السابق محمد مرسي، إذ تخرج مجموعات من الشباب في مسيرات قبل أن توقفهم أجهزة الأمن وتقع اشتباكات بين الطرفين، قبل أن يعود المتظاهرون أدراجهم وعليهم نتائج معركة حامية الوطيس، لكنهم لا يحدوهم أي شعور باليأس، بل يرفعون شعارات النصر لاسيما في حال إسقاط جرحى في صفوف الشرطة. وفي شوارع الحي المتواضع التي لم تصلها يد الإصلاح لسنوات، انتشرت على جدران مبانٍ شعارات مناوئة للنظام وللرئيس عبدالفتاح السيسي إلى جانب وصور لمرسي. لكن جدارية لافتة قرب مسجد «النور المحمدي» الذي كان يتبع جماعة «الإخوان المسلمين» تحكي جانباً آخر من قصة الحي. فالجدارية التي تحمل رسماً لراية «داعش» أسفله عبارة «الدولة الإسلامية في حي عين شمس... مكملين... القصاص للشهداء»، ليست الوحيدة في المنطقة، إذ تنتشر راية «داعش» الجهادية السوداء بأحجام مختلفة في شوارع عدة من الحي، كما أن عدداً من المشاركين في المسيرات الأسبوعية لأنصار مرسي يرفعونه بلا خوف. وإضافة إلى سقوط عشرات القتلى من أبناء الحي خلال فض قوات الأمن اعتصامي أنصار مرسي العام الماضي، سافر آخرون إلى سورية للقتال منذ عام 2012. وكان بين هؤلاء رجل وابنه قُتلا في مواجهات بين الشرطة وأعضاء في تنظيم «أنصار بيت المقدس». وقالت أجهزة الأمن إنه سافر إلى سورية للقتال، قبل أن يعود وينضم إلى التنظيم عقب عزل مرسي. كما قتل القيادي في «أنصار بيت المقدس» محمد منصور الطوخي المُكنى «أبو عبيدة»، في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة في أحد الشوارع الرئيسة في عين شمس. وقدر أحد قاطني الحي أعداد المقاتلين ب «المئات». وقال أن «مئات الشباب تغيبوا فترة عن عائلاتهم بحجة البحث عن العمل، قبل أن تتلقى أسرهم اتصالات أخبروهم خلالها بأنهم سافروا إلى سورية، وكانوا يرسلون شهرياً بانتظام أموالاً إلى عائلاتهم، منهم من لديه أبناء وبينهم من يعول والديه، لكن في الفترة الأخيرة انقطع الاتصال مع معظمهم، وسمعنا أن قوات الشرطة دهمت منازل بعض تلك الأسر خلال الشهور الماضية وأجرت تحقيقات مع أقارب المقاتلين». وكشف وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم في تصريحات أمس على هامش زيارته إلى محافظة مرسى مطروح الساحلية، «رصد عناصر ينتمون فكرياً إلى تنظيم داعش الإرهابي، وإلقاء القبض عليهم في المطارات وعلى الحدود قادمين من ليبيا ويخضعون للتحقيق»، مشدداً على أن «أجهزة الأمن لن تسمح بتحول بلادنا إلى سورية أو العراق». وأضاف أن «لا وجود لتنظيم داعش داخل الأراضي المصرية، لكن هناك من ينتمون إليه فكرياً». ويلفت الحاج سمير، وهو صاحب ورشة للحدادة في الحي منذ ثلاثة عقود، إلى أن «حالاً من الثأر تملكت العشرات من شباب الحي... باتوا منعزلين عن زملائهم وأصدقائهم القدامى، عندما يمر أحدهم لا يلقي حتى السلام، ويعتبرون جيرانهم شركاء مع النظام الذي قتل زملاءهم وإخوتهم». ويشير محمد عادل، وهو سائق تاكسي يقطن عين شمس، إلى أن أحد أصدقائه كان ضمن قتلى فض اعتصام أنصار مرسي في «رابعة العدوية». ويقول: «لم أعرف عنه الانتماء إلى جماعة الإخوان. كان يتردد على الاعتصام كل حين، وذهب إلى هناك بحجة الدفاع عن الدين». ولفت إلى أن أشقاء صديقه باتوا يلعبون دوراً في ترتيب المسيرات الأسبوعية لمؤيدي مرسي، وأحدهم تم توقيفه فيما يتنقل الآخران بين منازل العائلة. وأضاف أن أصدقاء آخرين هجروه لرفضه المشاركة في المواجهات ضد الشرطة. ويوضح: «لاحظت تغيير حالهم خلال العام الماضي. لم يكونوا يشاركون في التظاهرات التي كانت تخرج خلال الأعوام الثلاثة الماضية، أو يلتزمون دينياً. أغلبهم كان يدخن السجائر، وبعضهم يدخن الحشيش. كانوا يتسكعون على الطرق والنواصي، ويعاكسون الفتيات في الشارع، ونتحدث في أمور الجنس ونجتمع أحياناً لمشاهدة الأفلام الإباحية. لكنني فوجئت باعتناقهم أفكاراً تكفيرية». وتابع: «وقعت مشادات كلامية بيننا، حتى أنها في إحدى المرات كادت تتطور إلى تشابك بالأيدي بعد حديثي عن ضرورة منح الحكومة فرصة، فاتهموني بخيانة دماء الشهداء وخيانة الدين». لكنه يستبعد عادل أن يكون خلف تحرك هؤلاء الشباب دوافع تنظيمية، «فأغلبهم لم يُعرف في الماضي انتماؤهم إلى الإخوان، والدافع الرئيس لتحركاتهم هو الثأر لأقاربهم وأصدقائهم الذين حملوهم قتلى» خلال اشتباكات العام الماضي. ويحذر القيادي السابق في «الجماعة الإسلامية» ناجح إبراهيم من «حال انبهار تعتري الشباب المتدين تجاه داعش الذي يؤسس خلافة ويواجه الشيعة ونظام بشار الأسد وأميركا». ويقول ل»الحياة»: «في ظل الصراع السياسي يتوغل الفكر التكفيري، نحن في مصر نعيش مرحلة الإبهار الكاذب قبل الانهيار الكامل، وهذه الحال ستستمر حتى انتهاء داعش الذي أتوقع استمراره ثلاث سنوات». ورجح أن تظهر خلال تلك الفترة «تنظيمات صغيرة تكون على فكرة داعش وأسسها»، منبهاً أيضاً إلى خطر عودة المصريين المنخرطين في الحرب في سورية والعراق. وقال: «آلاف المصريين ذهبوا إلى سورية، أكثرهم من حركة حازمون التي أسسها (المحامي السلفي المثير للجدل حازم صلاح) أبو إسماعيل، إضافة إلى أعضاء في جماعة الإخوان والجماعة الإسلامية». وأوضح أن «الدعوة إلى الجهاد في سورية كانت تروج في كل مساجد مصر، ناهيك عن الموقف الرسمي في عهد مرسي الذي كان يؤيد هذا النشاط، وكان السفر إلى سورية يعد شرفاً، وهناك من يجهز هؤلاء ويمولهم. يذهبون إلى تركيا ومن هناك يتسللون إلى سورية عبر الحدود، وهو ما شكّل داعش... آلاف المصريين كانوا في جبهة النصرة وانتقل بعضهم إلى داعش». ولفت إلى أن «مصريين وصلوا إلى مراتب قيادية في تنظيم الدولة، فقائد سابق لداعش كان يُكنى أبو المهاجر وهو مصري من سوهاج، فيما عاد بعضهم متسللاً إلى البلاد وانخرط في تنظيمات مسلحة ونفذ بالفعل عمليات، وكان أبرز هؤلاء أحمد عبدالرحمن الذي عاد من سورية وكان قناصاً ماهراً قتل 14 ضابط جيش وشرطة قبل توقيفه». لكن إبراهيم أكد أن السلطات شددت أخيراً من إجراءاتها لرصد العائدين من سورية. وأضاف أن «شباناً كثيرين أوقفوا في المطار لدى عودتهم ويتم التحقيق معهم واستجوابهم». وطالب الدولة ب «أن تتسم بالحكمة، وإعلان استعدادها لعودة هؤلاء على أن يقدموا أنفسهم للسلطات، ويُنظر في كل حالة على حدة للبحث في تصويب الأفكار التكفيرية وإطلاق مراجعات فكرية. وفي هذه الحال ستجد غالبيتهم تعود إلى البلاد لأن لا خيار لهم الآن إلا الاستمرار في هذه التنظيمات». ويرى الخبير السياسي وحيد عبدالمجيد أن خطر «داعش» ليس في قدومه من الخارج، «وإنما يكمن هنا في الداخل، فالعنف لا يأتي من الخارج، وإنما قد يتلقى دعماً من جهات أجنبية». وقال ل «الحياة»: «إذا لم توجد جذور له في الداخل لن يجد أحد في الخارج ما يدعّمه، العنف ظاهرة اجتماعية وسياسية ترتبط ببيئة تنتجها، ولا تهبط من السماء، ولذلك تمثل هذه البيئة المجتمعية المصدر الرئيس للخطر الذي يكمن في أعداد هائلة ومتزايدة من الشباب الضائع الذي تتباين مشاعره بين الإحباط والمرارة والاستياء والنقمة والغضب والاغتراب، كما يكمن في مجتمع مضطرب ممزّق يحاول جزء منه التمسك بالأمل الجديد، ويسعى قسم ثان إلى تحطيم هذا الأمل، بينما يفتقد جزء ثالث أي يقين في شأن المستقبل». ولفت إلى أن «المجتمع المصري يمر بحال غير طبيعية تجعله مؤهلاً لإنتاج التعصب والتطرف وما يترتب عليهما من استعداد للعنف الذي لا يلجأ إليه بعضهم بسبب الفقر فقط. لذلك تجد شباناً مصريين لم يعرفوا الفقر ولم يكابدوا معاناته يتعاطفون مع داعش، ويذهبون إليه في سورية والعراق، وبعضهم لم يكن متطرفاً حتى وقت قريب». واعتبر أن «أهم ما يميز الجيل الثالث من الإرهابيين، مقارنة بالجيلين السابقين، أنه أكثر جاذبية لشباب غير منتمين سياسياً أو فكرياً، خصوصاً تنظيم داعش الذي تستحوذ الأنباء المتواترة عن فتوحاته العسكرية وإعلانه خلافة إسلامية على انتباه عدد متزايد من هؤلاء الشباب، كما أن الالتحاق بهذا التنظيم وغيره أسهل بسبب إسقاط كثير من التعقيدات التي كانت تنظيمات الجيلين السابقين تضعها لقبول أعضاء جدد لاعتبارات تتعلق بأمن التنظيم أو نقائه العقدي، ما يعني أن الانضمام إليه لا يتطلب تحولاً جوهرياً في شخصية الشاب وطريقة تفكيره وسلوكه على مدى شهور أو سنوات، وتلعب علاقات الصداقة دوراً رئيساً في هذا التحول الذي حدث في حالات عدة بعد نقاش بين الشاب وصديق أو أكثر يثق فيه وكان قد سبقه في طريق الانخراط في داعش». ويطالب ناجح إبراهيم بنشاط للمؤسسات الدينية «ضد أفكار داعش التي تعتمد على ابن تيمية، وهو بريء من التكفير، الشباب ليست لديه الثقافة ولا يعلم شيئاً عن الدين الإسلامي الصحيح. نحن دولة مهترئة في التعليم والثقافة والفكر». لكنه انتقد «القيود التي تفرضها الدولة على نشاط الجماعات الإسلامية السلمية»، لافتاً إلى أن «النشاط الديني الرسمي متوقف على عكس الجماعات الأكثر حيوية. النشاط الرسمي يقتصر على خطبة الجمعة، أين التجمعات والأنشطة ومن بينها الكشافة والمعسكرات التي تجيدها الجماعات الإسلامية؟ لماذا لا تزدهر أفكار التكفير في محافظة الإسكندرية مثلاً؟ السبب وجود جماعة الدعوة السلفية». لكن عبدالمجيد يرى أن «المعضلة أكبر من ذلك». ويقول: «أمامنا فرصة أخيرة لتجنب الدواعش إذا حصّنا مجتمعنا بالعدل وحرّرناه من الظلام والظلم وشجعنا الزهور السياسية والفكرية بكل ألوانها كي تتفتح فيه وتضيء جنباته»، منبهاً إلى أن «نزع السياسة من المجتمع مجدداً والإمعان في ذلك بخشونة أكثر من ذي قبل هما بداية الطريق إلى داعش، فأكثر ما يعزز الشعور بالضياع هو أن يجد الشاب نفسه محاصراً وخائفاً لا يستطيع التعبير عن نفسه، وعندما يشتد التضييق يحدث ارتباط بين الشعور بالضياع والإحساس بالضآلة على نحو يجعل الشاب مستعداً للسعي إلى الخلاص من هذا الإحساس عبر تبني قضية ما بغض النظر عن طابعها، ويسهل في هذه اللحظة إقناعه بأن التحاقه بداعش أو غيره من تنظيمات الجيل الثالث للعنف، إنما هو لنصرة قضية يتوهم أنها كبيرة وربما جليلة». وأضاف: «إذا كان عليه أن يدفع ثمناً للتعبير عن رأيه في بلده، فلتكن تضحيته في سبيل قضية يُقنع بأنها كبيرة وعظيمة وليس من أجل الخروج في تظاهرة صغيرة مثلاً، لذلك، يبدو أن أخطر ما يحدث في مصر اليوم هو التضييق المتزايد على الشباب، فالتظاهر ممنوع فعلياً، وجمعيات المجتمع المدني تتعرض للحصار بالمخالفة للدستور. ويمتد هذا الحصار إلى ممارسة النشاط السياسي في الجامعات».