عرفت تونس بعد «ثورة 14 جانفي» (كانون الثاني) 2011 موجة من العنف ضد مواطنين عزّل كان أبطالها منتمين إلى مجموعات دينية متشددة. وساهمت الفوضى التي عرفتها البلاد وانعدام الأمن وعودة قيادات إسلامية مهجّرة إلى البلاد في تأجيج ثورة «دينية» كادت تعصف بتونس لولا الاستفاقة الأمنية والسياسية التي تلت هجوم إسلاميين على السفارة الأميركية عام 2012. أحداث عنف كثيرة راح ضحيتها عشرات التونسيين الأبرياء بحجة رغبة مجموعات متطرفة في «نشر الدين الإسلامي بحد السيف» وتحويل تونس إمارة إسلامية. إبّان «ثورة 14 جانفي» كان مشهد امرأة ترتدي النقاب أو رجل يرتدي قميصاً على الطريقة الأفغانية في تونس أمراً مثيراً للدهشة والفضول، غير أن أشهراً قليلة بعد عودة الهدوء إلى البلاد تحوّلت الدهشة إلى رعب وقلق جرّاء شروع مئات من الشبان ممن أطلقوا اللحى وغيروا هندامهم في التجمهر وتكوين مجموعات سرعان ما نزلت إلى الشوارع منادية ب«تطبيق الشريعة الإسلامية» مهددة ومتوعدة بالذبح والسحل في الشوارع كل من لن ينصاع لأوامرها من التونسيين والتونسيات. شيئاً فشيئاً تحوّلت التهديدات إلى ممارسات غريبة. فإثر عرض القناة التلفزيونية الخاصة فيلماً إيرانياً (فيلم برسيبوليس) يحتوي تجسيداً للذات الإلهية خرج آلاف من الشبان المنتمين إلى مجموعات دينية حاملين راية «العقاب»، مهددين بقتل صاحب القناة وكل من فيها. وقد اضطرت السلطات الأمنية آنذاك إلى تطويق مقر القناة تحسباً لأي طارئ. وفي عام 2012 واحتجاجاً على إصدار أميركيين فيلماً مسيئاً للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) قام عدد من المتشددين دينياً بتطويق مقر السفارة الأميركية في تونس ورشق أعوان الأمن بالحجارة ومحاولة اقتحام مقر السفارة باستعمال الحجارة وقوارير المولوتوف والقضبان الحديد. وسجلت هذه الحادثة مقتل شخصين في صفوف المهاجمين وجرح 28 منهم وجرح 22 رجل أمن إلى جانب حرق سيارة أمنية وإيقاف 28 من المعتدين. وعرفت تونس إثر ذلك تطوراً في استعمال مجموعات دينية العنف ضد مواطنين عزل، إذ قام منتمون إلى ما يعرف سابقاً بمنظمة رابطات حماية الثورة التي تضم إسلاميين بالاعتداء بالعنف الشديد على أنصار وقياديي الاتحاد العام التونسي للشغل أثناء احتفالاتهم بذكرى اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد، والتجأ الاتحاد إلى القضاء الأمر الذي أدى إلى حل هذه المنظمة المحسوبة على حركة النهضة الإسلامية. وشيئاً فشيئاً وأمام الوقفة الأمنية الجادة ضد هذه الممارسات تحولت الاعتداءات العنيفة المباشرة إلى اعتداءات منظمة وسرية راح ضحيتها نائبان من المجلس التأسيسي هما الناشطان السياسيان شكري بلعيد ومحمد البراهمي اللذان تم اغتيالهما بالطريقة نفسها أمام منزليهما. وتحولت إثر ذلك المجموعات الدينية من الشوارع إلى جبل الشعانبي لتعمل طيلة السنتين الماضيتين على ترهيب التونسيين عبر ضربات إرهابية خطيرة راح ضحيتها عشرات من أعوان الأمن والجيش التونسي. وما زال شبح الإرهاب الذي تقوده مجموعات شبابية دينية مسلحة يخيم على البلاد ويهدد استقرارها أمام عجز الحكومات عن السيطرة بشكل نهائي على معاقل الإرهاب في جبل الشعانبي. في هذه الرّحلة الطويلة لتطور الإرهاب في تونس اتّهم عدد كبير من أئمة المساجد بنشر أفكار متطرفة في صفوف الشباب وتشجيعهم على الاعتداء على المواطنين التونسيين بدعوى «دفعهم إلى تطبيق الدين الإسلامي تطبيقاً صحيحاً». ونشر نشطاء على المواقع الاجتماعية طيلة السنوات الماضية مقاطع فيديو عدة لأئمة مساجد يحرضون أثناء الصلاة أو خلال خطبة الجمعة الشبان على العمل على إرساء الخلافة الإسلامية كما حث بعضهم الشبان على الذهاب إلى الجهاد في سورية وهو ما استجاب له عدد كبير من الفتيان والفتيات الذين لا تتجاوز سنهم عشرين سنة وقد قضى بعضهم. وكان وزير الشؤون الدينية في حكومة الترويكا السابقة أعلن خلال مؤتمر صحافي في كانون الثاني (يناير) 2012 فقدان الحكومة السيطرة على أكثر من 400 مسجد من جملة 5000 مسجد لمصلحة سلفيين قاموا باقتحامها وافتكاك الإمامة وطرد الأئمة السابقين بدعوى أنهم لا ينشرون ما دعا إليه الله ورسوله. وتواصلت معركة افتكاك المساجد من السلفيين لأكثر من سنتين، وأعلن رئيس ديوان وزير الشؤون الدينية عبد الستار بدر خلال آذار (مارس) 2013 أن جهود الحكومة الجديدة نجحت في تخليص عدد كبير من المساجد من أيدي السلفيين المتشددين لكن 149 مسجداً ما زالت خارج سيطرة الوزارة، مؤكداً أن 40 من بين هذه المساجد مصنفة ب»الخطيرة» نظراً إلى خطورة الجهات التي تستولي عليها. هجر عدد كبير من التونسيين المساجد واختاروا إقامة شعائرهم الدينية في منازلهم جرّاء الممارسات العنيفة لسلفيين داخلها. كما منعت عائلات أبناءها من الشبان من الصلاة في المساجد خوفاً عليهم من محاولات جرهم إلى الجهاد في سورية. وتحولت بعض المساجد في تونس إلى ساحات حرب بين مجموعات دينية مختلفة المذاهب لجأ بعضها إلى استعمال الأسلحة لفض خلافاتها. ويستشعر التونسيون القهر والحسرة بسبب تحول المساجد التي كانت رمزاً للتعليم الديني إلى مراكز تنتج العنف والإرهاب.