على رغم افتخارها بالوصول إلى منصب لم تتبوأه امرأة من قبل، تبدو غير راضية. في هذا الحوار تعترف المدير العام الجديد للمعهد العربي في باريس المثقفة والناقدة السعودية منى خزندار بما يعاني المعهد من أزمات متراكمة، متحدثة عن الظروف التي تُهدّد هذه المؤسسة العربية الفريدة من نوعها في قلب أوروبا. فالمشكلات التي يواجهها المعهد لا تنم عن مستقبل مطمئن إذا استمرت الأوضاع المادية على ما هي عليه الآن. أمّا واقعية خزندار وحماستها وجدّيتها في العمل فهي من العوامل التي تحول دون صمتها عن أحوال المعهد الذي يُكمل سنته الخامسة والعشرين في ظلّ ظروف إدارية ومالية صعبة. ما هو مستقبل المعهد الذي يُجسّد نافذة أساسية في التبادل الفني والثقافي بين فرنسا والدول العربية؟ وما هي أهداف خزندار والحلول التي تُقدّمها لإنقاذه من أزمته؟ كيف أثّر الربيع العربي في هيكلية المعهد وعمله؟ هل يُمكن أن يستبدل المعهد هويته العربية بأخرى فرنسية مع استمرار غياب الدعم العربي المُنتظم؟ عن هذه الأسئلة تجيب منى خزندار، المدير العام للمعهد، موجهة صرختها إلى حكّام الدول العربية لإنقاذ الصرح الثقافي العربي الوحيد في أوروبا، من أزمته الصعبة التي تتفاقم يوماً بعد يوم. كيف تلقيتم كمعهد يُمثّل العالم العربي في قلب أوروبا بادرة «الربيع العربي»؟ - ركّز معهد العالم العربي، منذ تأسيسه، على فكرة التاريخ العربي وتراثه وأمجاده، متناسياً واقعه الراهن. وأنا منذ تسلمي منصب المدير العام للمعهد قرّرت أن أعوّض هذا النقص في تعاطي المعهد مع الواقع العربي وتجليّاته الإبداعية والفنية الاجتماعية... وساعدتني في ذلك ظروف الشارع العربي وقتذاك كي أركّز على المشهد الراهن في المجتمعات العربية. وفي هذا الصدد نظّمت وزارة الخارجية الفرنسية ندوة مهمة في المعهد، ترأسها آلان جوبيه، ودُعي إليها الكثير من المثقفين والمفكرين في فرنسا وأوروبا، موضوعها الأساس الربيع العربي. وكما تعرفون، لدينا في المعهد متحف وسينما وقاعات معارض وغيرها من الأمور الثقافية التي يُمكن عبرها ترجمة الواقع العربي في كلّ ما يحمل من إبداع، لا سيّما أنّ الغرب يعرف الكثير عن تاريخ العرب فيما هو يجهل حاضره وأنّ ما زال فيه إبداع وتميز. ولعلنا عبر الندوات والمحاضرات والسينما نحاول أن نوضح ثقافتنا وهويتنا الثقافية. في الحقيقة كنت أفكّر في وسائل تستطيع أن تنقل إبداعنا القديم والمعاصر الذي يغيب عن الجمهور الغربي والفرنسي. قبل 25 سنة لم نكن نرى في فرنسا أي اهتمام بالأدب العربي وتراثه، أمّا اليوم فبدأنا نشهد نشاطات كبيرة وافتتاح معاهد ومتاحف هدفها التعريف بهذه الحضارة وإنجازاتها، ومن أهمّها افتتاح القسم الجديد في متحف اللوفر عن فنون الإسلام التي تشمل الدول العربية. هل واجه المعهد العربي في باريس مشاكل سياسية معينة بعد تغير الأنظمة في أكثر من دولة عربية من الدول الأعضاء؟ - لم نواجه مشاكل سياسية، وإنما إدارية. فكم مِن وزير ثقافة تغيّر في مصر مثلاً منذ بدء الأحداث إلى اليوم؟ لا شكّ في أنّ التقلبات السياسية انعكست على المعهد وأحدثت إرباكاً نتيجة معوقات إدارية في المسار العملي، خصوصاً أنّ المعهد كان يعيش تحديات معينة كإعادة افتتاح المتحف أوّل السنة الجديدة. فلم نستطع على سبيل المثل استعارة بعض القطع الأثرية من اليمن نتيجة المشاكل الداخلية التي نشبت فيه، وإنما بحمد الله تمكنّا من الحصول على بعض القطع الفنية من سورية قبل تفاقم الأزمة فيها وإقفال الحدود. كيف يُمكن المعهد العربي أن يلعب دوره في الحدّ من انتشار مفهوم «الإسلاموفوبيا» في أوروبا والحدّ من الظواهر والأحداث المرتبطة به؟ - من طريق البرامج والأنشطة الثقافية طبعاً. فالثقافة بما فيها الفنون والندوات والحوارات، كلّها أمور قادرة على إيجاد مساحة للحوار والنقاش وتوضيح بعض الأفكار ودحض المبالغات والتفاصيل غير الدقيقة. وأنا أعتقد أنّ الثقافة هي الطريق الأصحّ للتخلّص من العصبية والأفكار المسبقة وغيرها من مشكلات هذا العصر. المعهد العربي في ربع قرن تُصادف هذه السنة ذكرى مرور ربع قرن على افتتاح المعهد العربي في باريس. كيف تقوّمين مسار المعهد خلال 25 سنة؟ - ربع قرن ليس بالفترة الوجيزة، وبطبيعة الحال حدث الكثير من التغيرات التي طرأت على العالم كلّه والتي أثرّت بدورها في مسار المعهد الذي قام عام 1983 على أساس الشراكة بين العالمين العربي والغربي، مُمثلاً بالعاصمة الفرنسية باريس. فالمعهد كان يهدف من خلال هيكليته ومضمونه إلى توطيد العلاقات الثقافية والديبلوماسية بين الدول العربية والأوروبية. وكان الاتفاق ينصّ على دعم فرنسا المعهدَ بنسبة 60 في المئة، على أن يُموّل العالم العربي ال40 في المئة الباقية. إلّا أنّ هذه الشراكة تراجعت شيئاً فشيئاً نتيجة أسباب مختلفة، أولّها تخلّف الكثير من الدول العربية منذ بداية التسعينات عن دفع التمويل نظراً إلى ظروف عدّة تأتي في مقدمها حرب الخليج. وخلال تلك الفترة كان المعهد يُعاني خللاً في موازنة آخر العام، ما اضظر المعهد إلى إلغاء الكثير من أنشطته الدائمة ومؤتمراته الكبيرة ومحاضراته. هكذا، أصبحت فرنسا وحدها تتكفّل مسألة التمويل الذي شكّل عائقاً حقيقياً أمام أهداف المعهد ومشاريعه. وبعدما وجدت الدولة الفرنسية أنّ المعهد لا يمكن أن يستمرّ بمثل هذا الوضع الصعب، توصلت إلى حلّ يقضي بأن تدفع الدول العربية المتأخرات التي عليها، على أن تُكمل فرنسا دعمها للمعهد في شكل منفرد. لكنّ الحلّ المقترح لم يلغِ المشكلة لأنّ صندوق الوقف لم يصل إلى المبلغ الذي كنّا نتوقعه، بسبب عدم التزام بعض الدول العربية بالدفع، ما أضعف الشراكة الفرنسية - العربية وقلّص دور المعهد العربي في الحياة الثقافية والديبلوماسية. ومن يُموّل المعهد العربي اليوم؟ - فرنسا تموّل المعهد بنسبة 60 في المئة، أمّا البقية فيتمّ جمعها من مؤسسات وشركات فرنسية خاصة لها علاقة بالعالم العربي، وأحياناً من أفراد ودول وشخصيات عربية وإنما في شكل غير منتظم. وبصراحة، نحن لا يُمكننا الاتكال على دعم لا ندري إن كان سيأتي أم لا. وأنا أعتقد أنّ التجاهل العربي لهذا المعهد أفقده معنى الشراكة التي قام عليها منذ البداية. كيف اخترت كمدير عام للمعهد، الاحتفال بذكرى مرور 25 عاماً على تأسيسه؟ - قبل تسلّم هذا المنصب، كنت مسؤولة عن قسم الفن التشكيلي في المتحف الخاص بالمعهد العربي، وعملي في هذا المكان فترة طويلة جعلني مرتبطة به إلى حدّ كبير. من هنا، أحببت ألّا تمرّ هذه المناسبة في شكل عابر، بل حرصت على أن يكون الاحتفال بذكرى مرور ربع قرن على تأسيس هذا المعهد الفريد من نوعه مناسبة مميزة أيضاً. فتعاونت مع فريق عمل محترف على برمجة نشاط خاص بالمناسبة، عنوانه «25 سنة من الإبداع العربي»، وأُقيم قبل ثلاثة أشهر تقريباً وكان أكبر معرض للفنّ المعاصر في تاريخ معهد العالم العربي، بحيث اجتمع فيه 40 فناناً من أجيال مختلفة، أي من جيل عادل السيوي إلى جيل أيمن بعلبكي. واحتوى المعرض على تيارات مختلفة وموضوعات متباينة وأنواع فنية متعددة من الرسم إلى التصوير الفوتوغرافي. ومن المفترض أن ينتقل معرض «25 سنة من الإبداع العربي» إلى أكثر من عاصمة ودولة عربية مثل أبو ظبي والبحرين والكويت، آملين بأن يزور عواصم أخرى مثل بغداد التي تحتفل باختيارها «العاصمة الثقافية لعام 2013». وقدّمنا أيضاً في هذه المناسبة عروضاً حيّة ومعاصرة مثل عرض «هيب هوب» خاص بفنان سعودي يُدعى قصي، وكانت فرصة جميلة لتعريف الفرنسيين والعرب المهاجرين والعالم كلّه إلى فنّ سعودي من نوع جديد غير الذي عرفوه عبر أغنيات طلال المدّاح ومحمد عبده، لأنّ السعودية اليوم تضمّ الكثير من الفنانين الشباب المتميزين في أنواع حديثة من الفنون. نلحظ طغيان الفن التشكيلي والمعارض على معظم أنشطة المعهد الثقافية. ألا تجدون من الضرورة منح المسرح والأدب العربي فرصتهما؟ - من الضروري ترك مساحة مهمّة للمسرح والأدب، إلّا أن التركيز على المعارض والفنون التشكيلية هو نتيجة معرفتنا بمزاج الجمهور الفرنسي المهتم أصلاً بالمعارض والمتاحف، والذي لن يجد في مثل هذه الفنون البصرية عائق اللغة الذي يجده في الكتب العربية أو المسرح الذي يُقدّم عادة باللغة العربية... وعلى رغم أنّ الترجمة حاضرة في برنامج المعهد، إلّا أنها غير موجودة على نطاق واسع لأنها تحتاج إلى دعم مادي أيضاً. من هنا، أقول دائماً إنّ التمويل هو أساس تطور المعهد أو تراجعه. وأنا لدي الكثير من الطموحات والتطلعات في مجال تعزيز دور المعهد، إلّا أنّ مشكلة التمويل تعود لتقف عائقاً أمام كل التصورات والتخطيطات. فأنا، على سبيل المثل، فكّرت في إصدار نسخة عربية من مجلة «قنطرة» الصادرة عن المعهد العربي في باريس، إلّا أنّ غياب الدعم وكلفة الشحن وصعوبة التوزيع دفعتني إلى العدول عن الفكرة واستبدالها بفكرة إنشاء نسخة عربية الكترونية من المجلّة كي تصل إلى جمهور أكبر، لكننا ما زلنا نبحث عن دعم مالي. هل تهتمون كمعهد عربي بثقافة الضواحي في باريس؟ - أكيد، فالأنشطة الثقافية والنشاطات التربوية وورشات العمل الخاصة بالفنون والموسيقى العربية، وغيرها من الأمور التي حرص المعهد العربي على تقديمها ومتابعتها تركت صداها لدى هؤلاء الشباب من ذوي الأصول العربية والذين يعيشون في الضواحي، الأمر الذي أوجد لديهم فخراً واعتزازاً بأصولهم وجذورهم العربية. وأنا أعتقد أنّ ثقة المهاجر بهويته وفخره بجذوره وثقافته يولدان لديه تماهياً أفضل في المجتمع. ونحن نحاول قدر المستطاع دعمهم من خلال الثقافة، والثقافة هي دائماً الطريق الأفضل لبلوغ هدفك. مأزق المعهد صار للمعهد قيمة شكلية طغت على قيمته الحقيقية. هل تُلقين اللوم في ذلك على الدول العربية التي لم تُوحد جهودها من أجل حمايته؟ وهل تطالبينهم بمساعدة المعهد؟ - أنا لا أدعوهم بل أتوسّل إليهم وأقول لهم إنّ هذا المعهد هو بيتكم وواجهتكم في فرنسا وفي أوروبا. المعهد بُني بمالكم، وبفضلكم صار هذا المبنى ذو الهندسة المعمارية البديعة رمزاً بل صرحاً ثقافياً مهماً، فلا تتخلّوا عنه بعدما أنفقتم في بنائه الملايين. المعهد العربي في باريس هو اليوم أيقونة حقيقية ومن الجرم إهمالها، وعلى المسؤولين العرب أن يستغلّوا وجود هذا المعهد الأول والوحيد من نوعه في العالم، لأن هذا المكان بالذات قادر على أن يُغيّر نظرة العالم إلى العرب. ومن هذا المكان يمكن أن ننطلق في حوار مفيد للأديان والثقافات والحضارات. وأنا أطلب من كلّ الدول العربية التعاون معنا بهدف وضع خطط جديدة للعمل على إنقاذ المعهد المهدّد في ظلّ غياب دعمهم المالي المنتظم. أقول هذا مع شكري لكل الشخصيات العربية التي تُساعد بين الفترة والأخرى. هل يمنحك منصبك مطلق الصلاحيات داخل المعهد أم إنّ وجود رئيس مجلس إدارة فرنسي يُقلّص شيئاً من صلاحياتك؟ - يقوم المعهد، منذ تأسيسه، على رئيس ومدير. الأول فرنسي يرشحه رئيس الجمهورية الفرنسية، والثاني عربي يختاره مجلس السفراء العرب المؤلّف من 22 دولة. لكنّ دومينيك بوديس الذي رشّح نفسه كمندوب أوروبي ونجح في تولّي هذا المنصب، عدّل قانون المعهد الذي يمنع الرئيس من تولّي منصبين وأوجد منصباً جديداً هو «رئيس المجلس الأعلى» ليُنصّب نفسه عليه. ثمّ اختار رئيس مجلس إدارة آخر يشرف على الأمور الإدارية التي كانت من حق المدير العام للمعهد. هكذا، صار للمعهد رئيسان فرنسيان ومدير عام عربي. وهذا ما أضعف الشراكة وقلّص الصلاحيات العربية. يبدو أنك مستاءة من الوضع؟ - طبعاً وأعتقد أنّ من واجبي أن أحكي بصراحة وأقول ما يجري بشفافية. وعندما يأخذ أحدنا على عاتقه فعل التكلّم أو الكتابة يكون قد دخل حرباً إما بلسانه أو بقلمه، وأنا لا مشكلة لديّ في ذلك طالما أن هدفي يتمثل في تعديل الأمور لمصلحة المعهد وليس لمصلحتي الشخصية. صفة المعهد هي «العربي» لأنّه يقوم أولاً وأخيراً على الحضارة العربية وتراثها. ولكن، من الصعب أن يستمرّ المعهد في ظلّ علاقات شبه مقطوعة مع العالم العربي. وأنا أتمنى أن تعود أنشطة المعهد إلى ما كانت عليه في السابق قبل أن يُلغى الكثير من مهرجاناته وندواته مثل «مهرجان الشعر العربي»، الذي كنّا ندعو إليه شعراء من العالم العربي، و «مهرجان السينما العربية» الذي كان بمثابة لقاء ثقافي كبير مع المخرجين والممثلين والنقاد والصحافيين وغيرهم... يبدو أنّ طموحاتك أكبر من إمكانات المعهد، وما زال أمامك سنة ونصف السنة لانتهاء ولايتك. فهل تفكرين في البقاء، لو جُدّد لك، لتحقيق ما تحلمين به؟ - الأحلام وحدها لا تكفي، المساعدة المالية هي الأساس. ويأتي بعدها تحديد صلاحيات المدير العام العربي الذي لا يُعقل أن تؤخذ منه صلاحياته. وأنا أقولها بصراحة إذا لم أجد تطوراً في الوضع العام للمعهد، فلن أبقى لحظة واحدة لأنّ دولتي وتربيتي وعقليتي لا تسمح لي بالبقاء في منصب لا أعمل فيه.