إن ترجمة الرؤى الفلسفية في الأشياء لا يمكنها أن تبصر سوى الحقيقة، وحينما تبدأ الحقيقة بالظهور، تجيء اللغة مسكونة بالمغايرة والاختلاف، وفي المغايرة تغيب اللغة، لتبقى الحقيقة غاية تفصيلية لمنطق الاستحالة، وفي قمة الاستحالة نبدأ البحث عن المفتاح الذي من خلاله نلج المسافات والغايات. يمثل المفتاح رمزاً بصرياً تنفتح من خلاله أبواب الفن، وتنكشف نوافذ الأفكار، ولعل المفهوم الشيئي للعنصر المفتاح يجيء من خلال وظيفته الثنائية التي هي للفتح والغلق معاً، لتهيمن وظيفته الأولى على الأخيرة لغوياً، فيصبح اسمه مفتاحاً وليس مغلاقاً، وفي حقيقة هذا أن هيمنة الوظيفة عند بعض الفنانين جاءت كامنة في المستوى الثاني، وهو الاشتغال على فكرة الغلق والمغلق والانغلاق وضياع المكان. من هنا كان لبعض الفنانين المعاصرين أن ينقلوا دلالة المفتاح من الوظيفة المادية إلى غاية بصرية جمالية تحتضن في بنيتها خواص المفهوم، خصوصاً أن الأشياء المهمشة في هذا الوجود كثيرة ومتعددة، لكن إدراك الإنسان لها هو موضع الندرة والاختلاف، ولعل إدراك المفتاح كعمل فني جاهز للعرض هو مكمن المغامرة البصرية. يرتبط المفتاح بالخزائن والأمكنة أكثر من ارتباطه بالأزمنة أو الأشخاص، فمثلاً ينكشف المكان بوظيفة المفتاح لهذا نجد القصص القديمة والحكايات والأساطير تركز على أهمية دور هذا العنصر - المفتاح، لنجد في تلكم الحكايات الخرافية ما يطلق عليه ب«المفتاح السحري» الذي يحتضن بداخله قوة خارقة على فتح الأشياء والأبواب والخرائط التي هي في خطابها السردي ولوج معرفي إلى فتح الحقيقة والرمزي والغيبي. وفي عالم الفن المعاصر يجيء الفنان الإماراتي (محمد كاظم) المولود في عام 1969 بدبي، عارضاً تجربته (المفاتيح) وذلك في عام 1996، إذ طرح الفنان من خلالها العديد من الرؤى والأسئلة التي يتبنى وجودها المتلقي من خلال صدمته الأولى لهذا الطرح المختلف، ليكشف المتلقي - القارئ أن بنية الاختلاف هي محور الرؤية الكاملة في هذا المشروع المفاهيمي. ومحمد كاظم يعتبر من الفنانين الخمسة الذين تأسس على أيديهم الفن المفاهيمي المعاصر في الإمارات بجانب الفنانين حسن شريف، حسين شريف، محمد أحمد إبراهيم، عبدالله السعدي، وهو فنان متمرد ومشاكس على الشكل التقليدي للشيء، إذ استطاع أن يتمرد على كثير من مظاهر الشكل وتكوينه الخامي ومن ثم طريقة توظيفه فلسفياً عبر رؤية يراهن على رسالتها الفنان. إن فكرة العمل الذي قام بعرضه في عام 1996 (المفاتيح) تكمن في الظل المرسوم، ليغدو ظل المفاتيح شكلاً مهماً يوازي وجود المفتاح الأصل، من هنا يمزج الفنان فلسفياً عبر جدلية الوجود والعدم والظاهر والمخفي المرئي واللا مرئي، وذلك من خلال وجود ظل المفتاح وغياب المفتاح/ الأصل، لتصبح الحرية المراد من دلالتها المعرفية الفتح والخروج غير موجودة، ليبقى الظل مرسوماً كحرية مؤجلة أو زائفة. وانتقلُ بالقراءة من المفتاح التقليدي العادي إلى مفاتيح أخرى تتعلق بالميديا الحديثة وعلم التكنولوجيا وهي مفاتيح الكيبورد، ومن هؤلاء الفنانين الذين اشتغلوا على هذه الفكرة على سبيل التمثيل، مشروع الفنانة الكورية جان شي - Jean Shin، المولودة في عام 1971، والمقيمة في نيويورك التي عرضت مشروعاً مفاهيمياً، كان عبارة عن سجادة طولية سمتها ب TEXTile، إذ عرضتها الفنانة في معرض فيلادلفيا عام 2006، وكانت السجادة تحتوي على ما يقارب 22,528 كيكابس/ مفتاح، التي هي أصابع وأزرار لوحة مفاتيح الكومبيوتر، وقدّر طولها وعرضها ب 2،6 × 4 قدم والعرض × 20،4 قدم. وبعد ذلك قامت بعرض آخر بطريقة مختلفة استقلت فيها أزرار لوحة المفاتيح إلى عناصر متباعدة مفترقة لتصل الفنانة إلى فكرة التباعد بين الأرقام والأحرف والرموز على شكل بصري عريض وممتد، ليصبح هذا الكون من منحى فلسفي حائطاً كيبوردياً مغطى بالمفاتيح التي تحركه إرادة الإنسان أينما كان. إن إحساسنا باللمس على أصابع المفاتيح الكيبورد هو بمثابة تواصل سحري مع الآخرين، عبر تقنية عصرية تترجم عبر شفرات سلكية ولا سلكية مشاعرنا وأفكارنا، التي نريد إيصالها للمرسل الآخر في الجهة الأخرى. وهناك فنانة أميركية تدعى سارة فورست Sarah Frost عرضت تجربة مماثلة كانت مركّزة على الشكل التصميمي للجدران والغرف حريصة مع ذلك على الملامح الجمالية الديكورية التي تمثلها أزرار الكيبورد على مساحات شاسعة بداخل القاعات والبيوت والغرف الكبيرة. ولهذا كانت صورة المفتاح عند هؤلاء الفنانين رمزاً بصرياً تجاوز فيه صورتها المعتادة إلى فكرة بصرية جديدة تكمن فيها لعبة المغايرة والاختلاف. * ناقد تشكيلي.