إن للظل وجوده، وهو وجود بصري لا يدركه سوى مَنْ أرهق نفسه طويلاً في التأمل وفي كشف الحقائق الفلسفية في الأشياء. لم تكن فكرة الظل بعيدة عن فكر الإنسان الأول، ذلك الذي أخذه التأمل في الأشياء إلى إدراك المتغيّرات في الطبيعة، ومن ثم إدراك حقيقته الموجودة في شيء آخر يتصل بحقيقة ثالثة مُغيبة، فالظل ليس إلا دليلاً قاطعاً على وجود الشكل - الأصل، فظل الجسد الشيئي هو دليل على وجود شيئية الجسد. تأخذنا تجربة الفنانة التشكيلية اليابانية كُومي ياماشيتا المولودة في عام 1968 - والتي تعيش في نيويورك - إلى مفهوم بصري مغاير لمفهوم الظل/الأصل، وهنا تكون منطقية الفن المفاهيمي في فكرة الظل المغاير، فالظل الذي تقرأه على سطح الجدار أو على الأرض ليس هو بالضرورة الشكل المطابق للظل؛ أي ليس هنا ظل الشجرة الممتد متعلقاً بحقيقة الشجرة الممتدة وإنما هو ظل لشكل آخر، فهاهي ظلال الأشجار الكثيفة أصبحت شكلاً لأجنحة متشابكة لسرب من الطيور المحلقة، حتى أن شكل المسمار جاء ظله كعصا لمضرب البيسبول وهكذا. ولهذا فإن عدمية الشكل تفرض إلغاء المطابقة، وهنا تكمن لغة الظل الجديدة في عالم الفن والذي من خلاله أرادت الفنانة اليابانية إيصاله إلى الآخرين. كما ركّزت الفنانة (كومي) على الشكل الجسدي للإنسان من خلال إظهاره كظل، ولهذا نجد في أعمالها عدداً كثيراً من الوجوه والتي استخدمت فيها أوراقاً قابلة للطي من جهة واحدة لتبرز من خلاله وضعية الظل مع إسقاط متقن للضوء من الجهة المقابلة. وهذه الوجوه الظليّة هي كشف حقيقي لوجوه الواقع البشرية التي يشوبها الزيف والتزوير والنفاق، فهي وجوه لا تنكشف بسهولة إلا بعد فترة زمنية وتجارب حياتية طويلة تجعل من أصحاب الأقنعة أكثر وضوحاً وعرياً عبر ضوء الشمس، فالشمس هي رمز للحقيقة وفضح للظلمة، وهي الكاشفة لعنصر الظل، فلولا الشمس/الضوء لما كان هناك ظل في هذا الوجود. وهي مع ذلك وجوه ملوّنة ومتعددة الألوان في الشكل الورقي الخارج وفي الغلاف الكرتوني لها لكن ظلها واحد، وهنا يكون اللون في مقابل الظل، المتعدد اللوني في مقابل الظل الذي لا لون له، وهي في نهاية ذلك تعبيرات بصرية تكمن في الاختلاف. كما اشتغلت الفنانة (كومي) على تجربة ظليّة أخرى مرتبطة بالأرقام والأحرف، والتي أظهرت من خلالها ظلاً كاملاً لأجساد بشرية بدلاً من التركيز سابقاً على جزء بسيط من الوجه. ولعل السؤال الفلسفي الذي تحاول الفنانة أن توجد له إدراكاً وجودياً للأشياء من خلال الظل، يكمن في ماهية الظلية نفسها، وذلك حينما تصبح المرحلة الثانية من الشكل/الظل مطابقة للاختلاف، الذي يمثله الشكل/الأصل في أول الأمر، لتصل إلى مرحلة ثالثة تقع في المفهوم الظليّ للأشياء الذي هو صلب المفاهيمية، وهنا تصبح فلسفة الاختلاف مرهونة بحقيقتها المعتمدة من الأساس على المغايرة البصرية. ولم يقتصر هذا النوع من الأسلوب في فن الظل، فشغل بعض الفنانين بهذا الأمر، فمن الفنانين العالميين الذين اشتغلوا على فكرة الظل في الفن التشكيلي كمفهوم مُغاير، على سبيل المثال: الفنانان البريطانيان تيم نوبل وسو ويبستر، والفنان الألماني لاري كاجان، والفنان المصمم الياباني شيجو فوكودا وفي ظل ذلك، فقد كان منطق الظل في الفن البصري عند هؤلاء الفنانين وبخاصة عند الفنانة اليابانية (كومي) منطقاً مختلفاً، ظلٌ لا يشبه ظله أبداً، ظلٌ تكمن حقيقته في الاختلاف. * ناقد تشكيلي.