ترتبط عقيدة قتل الأب من الوجهة النفسية والرمزية بفكرة التمرد على المؤسسة الاجتماعية. وتعني عند الأدباء الرغبة في الانعتاق من سطوة آباء المؤسسة الثقافية بكل تمثُّلاتها الرسمية والمعنوية، الذين يتحكمون في مزاج المشهد الثقافي، لتوسيع مساحة حضور الأبناء وإسهامهم في بناء الظواهر الثقافية، سواء على مستوى إنتاج النص الأدبي أم المعرفة المنهجية. وهو حق مشروع لكل من يُحدث تماسه مع مفاعيل إنتاج واستهلاك النص الأدبي. هذه العقيدة التي راجت منذ عقود، وما زال الجيل الجديد من الأدباء يلوّح بلافتاتها وشعاراتها، غالباً ما تخفت بمجرد أن يقترب الأبناء المهمّشون من كتف الآباء المستحوذين على مجد وسلطة المشهد الثقافي. وهو ما يُلاحظ بصراحة فاضحة في «تويتر» حيث تم انبعاث الأب الثقافي بصورة لافتة لا تثير الاستغراب بقدر ما تستدعي فحص دعاوى التمرد عند حاملي لافتات التحرُّر من الآباء المتخثّرين، وقراءة مفهوم «التجايل» من منطلقات أكثر انكشافاً وواقعية. بمجرد أن يُعلن عن دخول مثقف من العيار الثقيل إلى فضاء «تويتر»، يتنادى طابور من «حرافيش الثقافة» إلى متابعته. ولا يكتفون بتبجيله والثناء على إسهامه الفكري والجمالي، بل يصطفون قبالته ليتلقون منه الدروس والنصائح والوصايا. وهذا أمر مستحب ومطلوب في علاقة «الشيخ الثقافي» مع مريديه، لولا أن المثقف المسكون بالأبوية يبالغ في ممارسة أبوته، فيما يتنازل المريد عن رأيه وروحه المتمردة، من أجل أن يحظى بإشادة من الأب، أو حتى تحية «تويترية»عابرة. يحدث هذا في مدار «تويتر» الذي يُفترض أن يكون فضاءً تفاعلياً تشاركياً، وليس امتداداً لقاعات الدرس الأكاديمي، إذ يُلاحظ أن المريد المسترخي في مهد «البُنوة» يباهي بما قاله عنه المثقف المُقيم في امتياز «الأبوة» من مديح مجاني، وكأن كل تظاهرات قتل الأب التي سيّرت في الماضي مجرد عويل يتامى، يخشون بدورهم على تيتُّم نصوصهم، وهذه نتيجة طبيعية لعدم وعي المنادين باجتثاث الأب والتنكيل به بأي معنى من معاني التدافع بين الأجيال ومغزى الإبدال الثقافي، لا بالمعنى الرمزي لتلك الفكرة الإبداعية ولا بالمتطلبات الواقعية لها. لا يمكن مساءلة الابن الذي لم يفكر مطلقاً في الخروج على أبوة أستاذه في الجامعة أو قدوته الأدبية، كما لا يمكن حتى الالتفات إلى الابن العاق الذي حضر المشهد الثقافي بموجب جرعات تصعيدية من أبيه الأدبي، الذي توسّم فيه القدرة على أن تمثّل أفكاره، ليكون امتداداً عضوياً له، ولكن المساءلة يجب أن تنال من أولئك الذين يمتلكون تاريخاً من العقوق الأدبي المشروع والصراخ الثوري في وجه الآباء التقليديين، الذين جعلوا من المشهد الثقافي ساحة معركة، وأجبروا الآباء على النزال ثم تركوا راياتهم في أرض المعركة الخاوية. إن ما يحدث من تزلّف صريح في «تويتر» بين الآباء والأبناء لا يشكل هدنة بين متحاربين، بل يشير إلى حالة اضطراب في التربية الأدبية، كما يفصح عن اختلال في آليات إنتاج النص والمعرفة، فالابن الذي نذر نفسه للمعركة لم يكن يعرف أصلاً مواصفات الأب المراد قتله، وبالتالي لم يجهّز الخطة المناسبة، ولا آلات القتل المطلوبة، ولا حتى الكيفية ولا المكان ولا لحظة الإجهاز عليه، بمعنى أنه لم يرسم الحدود الفاصلة ما بين الرمزي والواقعي في تلابيب هذه الفكرة، بل اشترك في مظاهرة صاخبة بموجب دعاوى لا علاقة لها بفكرة تحرير النص من سطوة الآباء. هذا هو ما يفسر حدة القدح المتبادل سابقاً بين الطرفين، بما يمثلانه كجيلين مختلفين ومتباعدين، كما يكشف عن حقيقة الافتراق الصوري الذي يشبه حال الخصام الموقتة المحكومة بالتسويات والمصالح، أي انفضاض المجابهة من دون أن يصاب أي مقاتل بشظية أو يخرج من المعركة بندبة، كما يفسر الطريقة الفارطة في التسامي التي غفر بموجبها الأب لابنه الضال إهاناته وزعبراته وزلاّته اللسانية، المتأتية من طيشه الأدبي بمجرد أن شاهده يجثو عند قدميه تائباً ومؤملاً بنيشان إشادة يلحقه به أو يفتح له فرصة الاستنساب إليه. إن هذا الأب الذي طالما مثل بالنسبة إلى الابن دور الخصم، لم يتم التعامل معه كضدٍ ثقافي داخل معركة من أجل إعادة تعريف وتوطين القيم المعرفية والجمالية، بقدر ما تم تصنيفه كآخر بعيد، أو كغريب متسلّط، ومستأثر بكعكة المشهد الثقافي، بمعنى أن الابن لم يفرز سلطته المعرفية والأدبية عن مفهوم السلطة المحقونة في الأذهان، وبالتالي لم يحدث التصارع بين الجيلين من أجل ابتكار مفهوم جديد للكتابة، بل مجرد حال من التشاحن الاستعراضي والتجابه المحسوب لتوسيع هامش الحضور، والحِفاظ على المكانة داخل المشهد. وما أن تشكل فضاء «تويتر» حتى صار فرصة لانبعاث الأب مرة أخرى، وإعادة تشييد الأبوة الأدبية بمقاييس تتواءم مع متطلبات اللحظة، إذ تم غرس النصب التذكارية له في الردهات التويترية، وكأن شيئاً من ذلك الاقتتال لم يكن، ربما لأن الذين أرادوا قتله استطعموا بعض امتيازات الأبوة التي صارت تعادل من منظورهم التبطّل وجني المكاسب، ولذلك نكسوا رايات القتال، وتخلصوا مما تتبقى من لافتات مهترئة، لأنهم لا يمتلكون في الأساس تجربة تحتاج إلى تأصيل، وبالتالي لم تتراكم لديهم خبرات المواجهة التي لا تنفصل عن صيرورة إنتاج النص، وهو ما يفسر حاجتهم إلى من يتواطأ معهم مرة أخرى على كذبة جديدة تحمل عنوان المعركة. إن عقيدة قتل الأب تعني في ما تعنيه رفض استيلاد الآباء والانتماء الفعلي لحركة تاريخية اجتماعية، والوصول بتلك الصيرورة إلى لحظة استحقاق، ويمكن من خلال «تويتر» تطوير آليات القتل وخفض منسوب قدسية الآباء والرموز، ولكن يبدو أن التعامل مع مفهوم الأبوة ضمن مفاهيم اجتماعية هو الذي أدى إلى عدم الفرز بين المعرفي والاجتماعي، وبالتالي تم بعث الكبار وتوقيرهم من منطلقات لا ثقافية، من دون قدرة على نحت معالم جديدة للجيل الأحدث، بل الاكتفاء بالسير في المجرى الذي خطه الآباء.