يثبت الملحن وعازف القانون العراقي سالم حسين الأمير، في بحوثه المتخصصة، أن الأغنية الأولى في التاريخ الإنساني تعود إلى بلاد الرافدين، وهي الأغنية التي عزفتها على «القيثارة السومرية» الباحثة الأميركية وأستاذة التاريخ القديم في جامعة شيكاغو آن كيلمر، بل غنّتها بصوتها أيضاً. وبحسب النص الذي اعتُبر «أول أغنية في التاريخ»، نجد افتتاناً متدفقاً تورده فتاة عاشقة لحبيبها ليلة عرسهما، فتعبّر عنه بالقول: «أيها العريس، دعني أضمّك إلي، دعنا نتمتع بوسامة هذا الليل، أمي ستقدم لك الطيّبات، وأبي سيغدق عليك الهبات، ضمّني إليك كي أبهج روحك، ضمّني إليك كي أبهج قلبك». لكن هذه القدرة على البوح، والمنغّمة وفق سياق موسيقي دُوّن بالحروف المسمارية في لغة «نوتة» خاصة نُقلت إلى رموز النوتة الموسيقية المعاصرة كي تقدم عملاً غنائياً يوثق ملمحاً بارزاً من ملامح حضارة وادي الرافدين، لا تبدو حاضرة في الإنتاج العراقي المعاصر، أو لنقل إنها باتت نادرة في تلك الأرض الغنية بالبشر والموارد والثقافات. ففي ظل تراجع منظومة قيمية اجتماعية ضابطة، فضلاً عن ضياع قيم فنية سوية نظراً إلى افتقار البلاد إلى مؤسسات ثقافية رصينة من جهة، وبسبب صعود قيم التحريم في العراق اليوم من جهة ثانية، وجدت موجة الأصوات الرديئة «فرصتها المثالية»، مع انتشار صناعة الإسفاف الذوقي والثقافي جراء موجات التهجير والنزوح وتزامنها مع ظاهرة انحطاط عامة، لتصبح تلك المواقع، وما يتصل بها من مراكز إنتاج غنائي، تجارية لا يردعها أي ضابط قيمي أو ثقافي. وباتت مصدراً لحشد من الأميين والأمّيات، يصدّرون إسفافهم الذوقي إلى جمهور محلّي قد يظن أن ما يسمعه من أولئك «الفنانين» هو الشكل الوحيد للغناء، وفي الخارج جمهور السهر الذي قد يسمع لكنه لا يصغي. وإذا كانت الأيام الأولى التي تلت سقوط الجمهورية العراقية الرابعة عام 2003، شهدت ما يشبه النكتة الثقيلة الدم والمدمّرة للمعاني لجهة ربط كل فوضى ورغبات تدميرية بأنها «الديموقراطية... ألم تقولوا إننا أحرار الآن؟»، فإن الفوضى الثقافية والتهافت القيمي شهد «ديموقراطية» من نوع «حرية سرقة الممتلكات العامة ونهب مؤسسات الدولة»، لكن في مجالات التعبير الروحية التي تعنيها الأغنية والموسيقى، فأصبح متوافراً لكل عاطل من الثقافة (والعمل) وقاصر عن الحدود الدنيا من المعرفة والالتزام الذوقي أن يصبح مغنياً وبنصوص متهافتة وألحان أكثر تهافتاً، تعتمد إيقاعاً راقصاً يتيح لحفنة فتيات استثمار مواهبهن في الرقص والاهتزاز وارتداء ما يكشف أكثر مما يستر. يغني حسين غزال مثلاً: «بطة راكبة بطة»، ويقصد الغزل بحبيبته التي تتمايل مثل «البطة» وتستقل سيارة من نوع مرسيدس يسميها العراقيون شعبياً «البطة»! وهناك باسل العزيز، وهو من «منتجات» تلفزيون عدي صدام حسين ويغني «ذبت الشيلة (غطاء نسائي للرأس) ولبست بنطرون» أي السروال أو البنطلون. وتدّعي ساجدة عبيد تقديم ما يمثّل تراث الغناء الشعبي النسائي العراقي، فباتت نجمة ملاه ليلية في عدد من المدن العربية، وهي لا تنسى اصطحاب مراهقات وفتيات ليرقصن فيما تعلن حكمتها: «هذا لعبنا لا تقول استهتار». وفي إطار الغناء النسائي السائد الآن، والذي يلوي أطر الفن، تقول المغنية لبنى كمر مخاطبة حبيبها: «اشبيك شارب شي... حبيبي؟». أو تخرج علينا «دلوعة» الشاشات العراقية، دالي، لتغني «صباح الخير بالليل»! اللافت إن الكثير من رموز الموجة الصاعدة في النغم العراقي الآن، يقرنون أسماءهم بالعراق لقباً، فهناك: حاتم العراقي وابنه علي حاتم العراقي، وأحمد العراقي، وخالد العراقي وحتى روبرت العراقي (على سبيل التنويع في الانتماء الديني!). مثلما هناك لقب البغدادي، على طريقة وفاء البغدادي، وعلي البغدادي وغيرهما. لكن ما لا يمكن هؤلاء، وغيرهم من الأسماء التي تكنّت أيضاً بلقبي الساهر والمهندس في محاولة لاستعارة النفوذ والنجاح اللذين حققهما كاظم الساهر وماجد المهندس، أن يتّكلوا على الأسماء. فهم نتاج طبيعي لفترة من الانحطاط السياسي والفكري والثقافي تمسك بالبلاد وتطبع بملامحها أوجه الحياة فيها، ومن بينها الحياة الموسيقية التي تحاول شخصيات شجاعة في بغداد وعدد من المحافظات الدفاع عن رقيّها المعروف تاريخياً وعن رفعة معانيها الإنسانية، وإن أوقعها نضالها هذا بين مطرقة ثقافة التحريم المستشرية في البلاد، وسندان الرداءة الغنائية اللامعة للأسف في الملاهي الليلية وعلى شاشات الفضائيات الغنائية. إن بلاداً قدمت لمشاعر الحب الرقيقة، خلال نصف قرن وأكثر، مئات الألحان والنصوص الغنائية المرهفة التي تقطر وجداً وتهذيباً للمشاعر، تنوء اليوم بحمل ثقيل آخر اسمه الفظاظة النغمية وانحطاط التعبير. وكما قد تفتقر هذه المجتمعات إلى الأمن والحياة السياسية المستقرة والازدهار الاقتصادي، ففيها أيضاً عطش إلى أغنية حب ذات معنى... والحال، إن الأمر على الأرجح ليس صدفة، والحلقات متصلة يؤثر بعضها في بعضها.