قبل وفاته عام 2006 بأيام، وحين كان عراب موسيقى السول جيمس براون يقدّم حفلة في العاصمة الجورجية تبليسي، على حافة مسبح أولمبي، بلغ به الانغماس مع الموسيقى حدّ رمي نفسه في الماء، ليتبعه موسيقيوه في مشهد لا يمكن تبريره، إلا أن صاحب التاريخ العاصف حياتياً وإنسانياً في الموسيقى الأميركية المعاصرة، «يعرف كيف يشد جمهوره، واحداً كان أو مئات الآلاف». حادث طريف بدأ به كتاب «ذي وان» لكاتب سيرة جيمس براون آر جي سميث. والكتاب سيرة فريدة عن واحد من نجوم الترفيه والموسيقى في النغم الأميركي المعاصر، وصاحب طاقة لا حدود لها من التحولات: من الفقر المدقع إلى الغنى، من الفظاظة والقسوة الاجتماعية (بيئة الجنوب الأميركي والفصل العنصري مع السود حين ولد براون في ثلاثينات القرن الماضي بولاية جورجيا المحافظة جداً حيال حقوق الأميركيين الافارقة)، إلى الروح الإنسانية المحبة للخير، إذ ظل نجم «موسيقى السول» متبرعاً سخياً للمنظمات الإنسانية والخيرية. ومن ناشط في «حركة القوة السوداء» صاحبة النفوذ القوي بين سود أميركا في ستينات القرن الماضي، المناهضة للقيم السياسية الأميركية السائدة قبل نصف قرن، إلى النجم الودود الذي يحرص رؤساء أميركا على إقامة علاقات معه واستقباله في البيت الأبيض. سيرة براون كما في الكتاب، سيرة حلم أميركي نموذجي وتحديداً سيرة حلم أميركي أسود، من الحرمان والقسوة إلى الغنى والحياة المرفّهة، من الواقعية الشديدة إلى حياة تختلط فيها الأحلام بالغرائب، وصولاً إلى نهاية واقعية من نوع ما: الانتهاء أسيراً للديون والمخدرات. وهذه نهاية قد تبرر لجوء براون إلى الغناء في تجارب مع أسماء أقل منه شأناً بكثير، ليس بعيداً منها اسم المطرب المصري حكيم. تقول عمة براون إنه كان أشبه بالميت حين ولد، حتى إنها نفخت هواء في رئتيه ليتنفس. وتستدرك: «ما هو مفيد عندما تولد ميتاً ثم تحياً هو أنك ستتيقن من أن لا شيء سيتمكن من قتلك». وتبدو حياته في حي السود في مدينة أوغوستا بولاية جورجيا، تجسيداً لقول عمته، فهو عبر أخطاراً عدّة في شبابه، بين عمله في الملاكمة وغسل السيارات، وانغماسه في الأجواء الثقافية وانحطاط المدينة الأخلاقي (الدعارة)، حتى لحظة لقائه مع بوبي بيرد الذي أسس فرقة براون الموسيقية الأولى في عام 1955 «اللهب الشهير» والذي قال للمغني الشاب إن عليه أن يهدأ قليلاً ويوفر بعضاً من حماسته: «أمامنا الكثير من الوقت... لا تستجعل فالوقت متاح أمامنا كي نحاول من أجل الوصول إلى لحظة تسجيل رقم قياسي، وعلى طريقتك فإننا في لحظة تحقيقنا ذلك، ستكون قد قتلت نفسك». حماسة براون لكن براون لم يعمل بنصيحة بيرد، حتى إن صرخته التي صارت ملازمة له، على رغم خدشها الأذن، باتت أشبه بمحاولته الوصول إلى مبتغاه بسرعة لا تتمكن منها الكلمات ولا الأنغام، فيلجأ إلى الصراخ أو يرمي بجسده فتصطدم ركبتاه بأرض المسرح، وكأن نوبة ما انتابته، كما يظهر ذلك فيلم «استعراض تي آي إم آي» الأسطوري المنتج عام 1964. تلك «النوبة» أو المزيج من الانفعال في الرقص والغناء، صارت بصمة جيمس براون الخاصة، مثلما صارت إشارة مروره إلى مناطق عدة من العالم، وتحولت موسيقاه وأغنياته عربياً إلى نوع من البيان الغنائي غير المعلن لشباب في ستينات القرن الماضي وسبعيناته. فالملاهي الليلية في بيروت كانت تبث أغنياته من دون انقطاع، مثلما موسيقاه كانت تعزفها فرق عراقية تقدم الموسيقى الغربية في بغداد على شواطئ دجلة، أو أن تتقدم فتيات جامعيات نحو محال بيع الأشرطة الموسيقية، وبلا تردد يسألن عن كاسيت أغنيته «سكس ماشين». وفي السياق ذاته صارت موسيقاه، وإن قدمت بطريقة لا تخلو أحياناً من ابتذال، ملازمة لسهرات النوادي واللقاءات الشابة المتمردة كما في أفلام مصرية ولبنانية وسورية كثيرة، أو لتجسيد «مجون» شخصيات غامضة، كما في شخصية الرسام الشاذ في فيلم المخرج الراحل صلاح أبو سيف «حمام الملاطيلي» التي جسدها الممثل يوسف شعبان.