آن الأوان، وتأخر قليلاً، لظهور أحزاب سياسية في الداخل السوري، تضبط الإيقاع السياسي على أرض الواقع، وتلبي الاستحقاقات السياسية المعقدة والمتزايدة، وتبلور الخبرات والتجارب المعمقة التي عاشها السوريون، وتقود مرحلة التحولات المصيرية التي تمرُّ بها البلاد. لم تكن في سورية قبل الثورة أحزاب أو نظام حزبي، بل حزب مهيمن هو «البعث»، أحاط نفسه بمجموعة من الأحزاب الصورية التي تردد خطابه وتزايد عليه أحياناً. وكان السماح بتأسيس الاحزاب وعملها، أبرز مطالب السوريين في العقود الأربعة الماضية، لكنهم عندما انتزعوا حرية تشكيل ما يرغبون فيه، امتنعوا عن تأسيس الأحزاب، واعتبروه من شؤون ما بعد السقوط، أو ترفاً وأنانية لا تليق بالحالة الثورية، أو باباً للشقاق في مرحلة تقتضي توحد القوى. لكن تطاول أمد الثورة، وتعقُّد شؤونها وقضاياها، وامتلاء المجال العام بمؤسسات مكينة في التنظيم والإدارة والعمل الإنساني والإعلامي والعسكري، وتراكم المهمات السياسية أمام الفاعلين والناطقين والسياسيين، دفعتهم إلى مراجعة تلك الفكرة، ليتبين لكثيرين منهم أن بناء الركن السياسي وتنميته، والذي تُعتبر الأحزاب أداته الأساسية، ليس فقط أمراً لا يتعارض والحالة الثورية السورية في وضعها الراهن، بل هو ضرورة ملحَّة. فالأحزاب تنشأ لمنح الأفراد كياناً يمثلهم ويعبّر عنهم سياسياً، وفي ظل عدم وجود أحزاب أطلقت أو واكبت الثورة السورية كما يحدث في الثورات عادة، وفي الوقت الذي يشكو السوريون من تهميشهم وإقصائهم، وخطف واحتكار النطق باسمهم من جانب تنظيمات شكلية، أو جهات غير لصيقة بالواقع الداخلي أو شخصيات تعيش في الخارج، برزت في مقتبل الثورة كبديل موقت عن الصوت السياسي الحقيقي... أصبح ظهور كيانات، ينتخب أعضاؤها المعروفون ممثليهم بطريقة ديموقراطية، وفق برامج وسياسات واضحة ومعلنة، هو الحل الوحيد الممكن، لفوضى التمثيل، والتباس الشرعية من جهة، ولاضطراب الخطاب السياسي وتخبطه من جهة أخرى. فالتنظيم على أرض الواقع، يفرض بطريقة أو أخرى، الانضباط المنهجي في التفكير وعلى آلية اتخاذ القرار. وعندما تنطلق الأحزاب، تعمل أولاً على التنشئة والتأهيل والتنمية السياسية، وفي ظل الإعاقة الأصلية التي تسبب فيها إغلاق النظام السوري للمجال السياسي طوال نصف قرن، وانزياح الوعي السياسي العام، عن الوطني والحداثي، بسبب ظروف الحرب الشاملة العنيفة التي شنّها النظام على المجتمع، وعلى الناشطين السياسيين بخاصة، وتراجع نفوذهم ودورهم، وبروز العسكريين ورجال الدين وممثلي الجماعات الأهلية وحاملي حقائب المال السياسي، يغدو ظهور الأحزاب بمثابة عملية إنقاذية للسياسة الوطنية الديموقراطية، وللطبقة السياسية السورية الناشئة، بخاصة مجموعات الشباب التي ظهرت في مقتبل الثورة، ممن تأهلوا ثقافياً خارج منظومة النظام السلطوية التي انشغلت عنهم في العقد الأخير بجني المكاسب الاقتصادية، وبمنأى عن سطوة المنظومات الأيديولوجية البديلة التي تأهلت داخلها الأجيال السابقة من الناشطين والمثقفين. إن ضياع طبقة الناشطين الشباب، التي فاجأت الجميع بوعيها وتحررها وانفتاحها، سيكون خسارة لا تعوّض للحياة السياسية السورية، وإزاء تشتتهم وضعف تأثيرهم، وربما نبذهم، من جانب القوى العنيفة أو المتطرفة، وسعي القوى التقليدية إلى تجنيدهم وتسخيرهم لخدمة برامجها، أو محاولة القوى الإقليمية والدولية استقطابهم وشراء ولائهم. وهؤلاء لا يبدو أن من سبيل لاستعادة حضورهم وفاعليتهم، إلا بتشكيل كياناتهم الخاصة التي تكرس وزنهم النوعي وتفرضه على الأرض، وفي المعادلات السياسية. ولا نعتقد أن ذلك سيتأخر كثيراً، فمعظم هؤلاء الشبان يبحث ويتساءل اليوم عن مصيره ودوره في المرحلة المقبلة، وهم يعتقدون بأن تأسيس الأحزاب هو الفكرة الأكثر صوابية وقابلية للتحقق، ونحن نعتقد بأن تشكيلاتهم ستفاجئ الجميع في المرحلة المقبلة أيضاً، بحيويتها وحداثتها ووطنيتها. إن من سيرغبون في الانخراط في العمل الحزبي، يتجمّعون طوعاً ويتمتعون بقسط من الثقافة والآراء الحرة، وبذهنية العمل السياسي المنفتحة والنسبية، ويتشاطرون قيم التفاهم عبر التسويات السلميَّة، وينحدرون من مختلف المشارب الفكرية والمكونات الثقافية للمجتمع، ويتناثرون بين طبقاته، ما يجعل أحزابهم بمثابة شبكة أمان، تتصدى لمهمة ربط وتجميع ما تباعد أو تنابذ من مكونات المجتمع، ريثما تنهض دولة المواطنة والقانون، وتتولى مهمة الدمج المجتمعي. ويقتضي تطور أحوال المعارضة، التي يُعتقد بأنها في الطريق إلى تشكيل حكومة لإدارة المناطق المحررة، وجود الأحزاب لتكون قناة تواصل بين المجتمع وتلك الهيئة، وللمشاركة المنظمة في اتخاذ القرار، ومراقبتها ومحاسبتها. في المقابل سيضفي وجود الأحزاب شرعية نسبية على الحكومة، في ظل صعوبة إجراء انتخابات عامة. بالطبع، يبقى قائماً خطر أن تصبح الأحزاب أداة لتمزيق قوى المجتمع والثورة، أو بوابة للتدخل الخارجي، بخاصة في ظل عدم وجود تنافس لكسب اصوات الناخبين، وحاجة المجتمع المنكوب الى المال. لكن تمتع بعض القادة بحس سياسي سليم، وأفق تاريخي يستشرف الآتي، ويدفع للعمل على كسب ثقة الناخبين، لا شراء ذممهم وولائهم، والتركيز على القضايا الوطنية، كأسلوب للتجنيد والتعبئة السياسية، سيرغم بقية العاملين السياسيين على الانخراط في التنافس لكسب تأييد المواطنين وتقديم الخدمات غير المباشرة لهم، ويساعد وسائل الإعلام الحديثة، بخاصة الاجتماعية، على انجاز هذه المهمة، من خلال دورة المعلومات من المجتمع وإليه. تبقى مسألة التمويل الأكثر خطورة وحساسية. فالأحزاب لا تنهض بلا تمويل، وهذا لا يأتي بلا توظيف، لكن ترسيخ قواعد عامة حاكمة تلزم الجميع بالشفافية حيال مصادره، ووضع اشتراطات واضحة على الممولين، سيحدّان كثيراً من عمليات الفساد المرتبطة به، وسيمكّنان الأحزاب الوطنية المستقلة من الحصول على تمويل مناسب. وفي العموم، اندلعت الثورة السورية تحت مطلب واضح هو الحرية التي تحيل سياسياً إلى الديموقراطية، المرتبطة جدلياً بالأحزاب. فالديموقراطية هي الرحم الذي تولد منه الأحزاب، والأحزاب تعود لتشكل المؤسسات الديموقراطية، بما يضمن أداءها لوظيفة التداول السلمي للسلطة. فالأحزاب خطوة على طريق الحرية، وضمانة لعدم الوقوع مجدداً، في براثن الديكتاتورية والتسلط.