عزلة الفنان سمعان خوام الفكرية والاجتماعية، المسجونة في صندوق الحياة، وعالمه الداخلي القاسي الذي يخرج منه أناه وصراعه مع محيطه، تتجلى في معرضه «كرسي، طاولة، والرجل العصفور» الذي استضافته غاليري جوانا صيقلي في بيروت. جسد واحد بوجه عصفور عاجز عن الطيران، جسد ثقيل يشكّل عبئاً على صاحبه وعلى تطوّر الانسان العقلي المتحرّر، بعامة. هذا الجسد يبقى في لوحات التشكيلي السوري- اللبناني، مكبّلاً برغباته في إطار ضيّق، في حين يحاول بملامحه العصفورية أن يحطّم القيود ليتحرّر. لكن عجزاً ما يدور في الأفق. الجسد المكبّل في لوحات خوام الثلاثية الأبعاد ذات الألوان الدافئة، هو المدينة الكئيبة الغارقة في الفساد والجهل، ولا يبدو أن سكانها سيصلون الى البرّ أبداً. هو جسد الجماعة الذي يُنهش بأسنان الجهات السياسية كافة. هو الذاكرة التي لم يعد يستوعب العقل ولا الجسد مآسيها ونكباتها وتناقضاتها، فأقدمت على الانتحار متحوّلة سمكة لا تعرف عن ماضيها شيئاً. سمكة تظهر كالمرأة الحلم أو الوهم التي تكاد تنفجر من تضخم الأنا فيها. فتأتي الطاولة التي لا تبتعد أفكارنا وأجسامنا عن حدودها الاربعة، لتمثّل المدينة الصندوق أو العلبة الضيّقة التي نعيش فيها، كأنها ركيزة هذا الحوار- الصراع الدائر بين الرجل العصفور (سمعان خوام) والمرأة والوطن وما يدور في فلكهم. لكن الصراع والمواجهة والمحاسبة حاضرة هنا بين المدينة والجماعة، بين الانتماء وعدم الانتماء، بين الحياة والموت، بين الأنا والآخر والفرد الذي أراده خوام أن يكون بوجه عصفور تارة ومحاطاً بالعصافير تارة أخرة. فالحلم بالحرية والطيران يلازم هذه اللوحات التي تعتمد المدرسة البنائية في التشكيل التي انطلقت من روسيا بهدف بناء نظام اشتراكي، لتعبّر عن فلسفة خوام الخاصة في الرسم والشعر اللذين سخّرهما للبحث في قضايا الهوية واللاإنتماء والنقد الاجتماعي والرفاهية الانسانية والمواجهة والثورة على السائد الثابت الذي يحيل الى الجماد. الولادة الثانية لخوّام ابن الثامنة والثلاثين، فلسفة خاصة في الحياة. صاحب ديوانَي «مملكة الصراصير» و «دليل المهرّج»، جعل من كتب كبار الروائيين والشعراء والفلاسفة مثل سارتر وهنري ميللر ونيتشه وغابرييل غارسيا ماركيز وغيرهم، أثاث بيته ومحترفه في منطقة الدورة في ضاحية بيروت. السوري الذي هجر مدينة الأمويين الى بيروت الحرب الأهلية، كي لا يكون «جزءاً من نظامها البطيء القاتل»، ترك المدرسة في الثالثة عشرة، «ليتأمل نجوم ليل دمشق مع أصدقاء أكبر منه سناً، والتفكير في القضايا الوجودية وفلسفة الحياة والموت التي ما زالت تشغله». لم يكن الطفل بجسده النحيل يهوى اللعب، ولم تستهوه المناهج التربوية، بل فضّل بيع كتبه المدرسية لينهل من كتب الفلسفة والعلوم، فدخل لعبة التحدي التي يعشقها الى حدّ الموت. «كنت أُنعت بالكسول والراسب، في حين قرأت نيتشه وأفلاطون وأرسطو وسارتر وأنا لم أكمل الخامسة عشرة بعد»، يقول خوام الذي يصف طفولته في مسقط رأسه بأنها كانت هزيلة وبطيئة. على رغم نيرانها المشتعلة في الثمانينات، «كنت أرى بيروت حيّة وصاخبة، جذبني فيها آنذاك عدم التفكير في المستقبل والعيش كل يوم بيومه، ومواجهة الموت». في السادسة عشرة انتقل المراهق المهووس بالأسئلة الوجودية الى بيروت مع عائلته لضرورات أمنية، حاملاً في نفسه غضباً شديداً على النظام العسكري الذي كان سبباً لنفيه. «كان مجرد التحدث بلهجة سورية جناية في مناطق بيروتالشرقية حيث سكننا، وكي لا أشعر بأنني منبوذ تكيّفت مع الميليشيات الحاكمة في منطقتي وقاتلت في «حرب التحرير والإلغاء» مع القوات اللبنانية ضد الجيش السوري، من دون انتماء فعلي لأنني أعتقد أن مجرد الانتماء الى عقيدة يعني نهايتي. فأنا إنسان حرّ لا أنتمي الى دين أو حزب أو جيش»، يقول خوام ويضيف: «مع أنني كنت ضد حمل السلاح وضد فكرة القتال والقتل، جاء قتالي انتقاماً شخصياً من القمع». ويشرح أن مواجهة الموت كانت الحافز الأساسي الذي يدفعه الى القتال، إذ «إن المواجهة الجدلية تصنع منك إنساناً أقوى يحب الحياة فعلاً». لكن هذه التجربة لم «تُشبع شغفي، ولم تُعط جواباً على أسئلتي الوجودية»، فعبثية الموت مغرية لهذا الشاعر والتشكيلي «العبثي المنظم»، وفق قوله. وما ان سنحت له الفرصة لمواجهة جديدة، حتى عرّض حياته للخطر. «بعد انتهاء الحرب الأهلية أي في العام 1993، كنت في نزهة في بساتين البترون (شمال بيروت) مع أصدقاء لي، فلمحت لافتة مكتوباً عليها «ممنوع الدخول ألغام»... قررت مواجهة الموت مرّة جديدة ودخلت... بُترت ساقي وأضناني الوجع، لكنني شعرت بنجاح التجربة لأنني انتصرت على الموت»... من هنا بدأ سمعان خوام ابن الثامنة عشرة، يبحث عن نفسه وعن مكانه وكأنه وُلد من جديد، مؤكداً: «لا يعنيني أن أكون مبشراً، بل أن أجد المكان المهذّب الذي يحترم عزلتي الفكرية». فدخل عالم المسرح بمعية صديقه المسرحي إيلي شلهوب الذي حوّل أفلام إنغمار بيرغمان الى مسرحيات. ثم بدأ خوام يكتشف ميوله الى الفن في شكل عام، الى أن اكتشف موهبته في الرسم حين تولى رسم لوحات لتكون جزءاً من السينوغرافيا في مسرحية «ساعة الذئب» لبيرغمان، التي عرضت على مسرح الجامعة اللبنانية الاميركية (LAU). فجذبته رائحة الألوان التي تذكّره برائحة الشام القديمة، وانغمس في غمار التجريد، ليطوّع اللوحة ويغرقها في الهمّ العام الذي شغله منذ معرضه الأول في العام 1999 «من غيلان باخوس الى الرب إيل»، باحثاً فيه عن هوية بيروت ما بعد الحرب وعن آثارها. ثم خاض غمار الشعر في أول ديوان له في العام 2001 بعنوان «مملكة الصراصير». رسومه قصائد ليست بعيدة أبيات خوام وقصائده عن رسومه الطالعة من فيلم سينمائي قديم متفلّت من أي سيناريو معدّ سابقاً. كأن الشعر يُكمّل الرسم والتصوير عنده، ليُضيء على عالم الانسان الداخلي ويبدّد الصراع الذي في داخله هو كفنان يحمل في فلسفته وفنه وعمله جدلية المراقب والناقد. فمن يقرأْ قصائده المشغولة على أرضية خام ومبتكرة، يرَ فيها لغة بصرية غير مألوفة. وكذلك يفعل في التشكيل حيث تقرأ في شخصياته وألوانه المتروكة بلا ماكياج دقيق، لغة شعرية فلسفية عميقة. ومع أن خوام يعتبر أنه لا يستخدم الأثر الذي تركته دمشق في نفسه لكونه كان يرفض الانتماء إليها، فإنك تراها في الأسى الذي تركه الحكم العسكري في نفس المراهق والمتجسّد في لوحاته. ترى دمشق في امرأة لوحاته المكبّلة، وفي الوجوه والعصافير التي تلازم أعماله والتوق الى الحرية، خصوصاً في معرضه «قبلات العدوّ» (حول الثورة السورية والمجازر المرتكبة بحق الانسانية) الذي أقيم في في سنغافورة الأسبوع الماضي. ترى دمشق في ألوانه الترابية العتيقة كعتق الشام التاريخية. ترى دمشق في السمكة التي لا تريد أن تتذكر ماضيها وتُقارع الأكواريوم لتخرج من بيئتها وتغيّر جلدها، كما فعل خوام الذي كان يرفض دوماً أن ينتمي إلى «عين الشرق». «الشام لا يمكن ألا تترك أثراً في ساكنيها، فرائحتها والحمام في الساحات وأصوات المآذن والبيوت القديمة وحارات باب توما حيث ولدت، كلها موجودة في داخلي بشكل حميميّ، لكن لم أستعملها في إنتاجي لأنني رفضت الانتماء اليها... أما الآن فقط حان الوقت بعدما اندلعت الثورة الشعبية بغض النظر عن المنحى السياسي الذي تتخذه»، يقول خوام. «كذبة ثقافية» أما بيروت ذاك الحلم الطفولي وحرية التعبير، فيتعبرها خوام الذي خاض معركة شهيرة مع رجال أمنها وقضائها على خلفية رسوم ضد الحرب في ذكرى اندلاعها في نيسان (أبريل) الماضي، «كذبة ثقافية كبيرة، الحرية فيها مجتزأة». ويضيف: «ذلك أتى نتيجة استزلام معظم المثقفين للنظام اللبناني الطائفي تحت الحكم السوري، واختيار البعض الآخر منهم العدمية كحبل خلاص. لذا فشل المجتمع الثقافي في تقديم طرح اجتماعي ومدني جديد». ويشرح بلهجة ملؤها الغضب، أن «كفّة الفن الشخصي الذي يقدم التجارب الشخصية والأنا الانسانية، رجحت في لبنان على حساب التجارب الثقافية التي تتناول المجتمع والهمّ العام وتطويره، لأن الوحش (أي الطائفية السياسية والفساد والحرب التي لم تنتهِ) ابتلع الثقافة، في حين أن الشعب مشغول بلقمة عيشه وهو معذور في ذلك». وعلى رغم كل هذه الطاقة السلبية، هناك «كمية إبداع عظيمة تستحق أن نحارب لأجلها كي لا يحتلّ التطرف هذه المساحة الجغرافية ذات الارث التاريخي المهم، حيث نمت شخصيتي واكتشفت هويتي ولي أصدقاء». لذا بقي خوّام في بيروته التي يحبها «حباً نقدياً» وقرّر أن يكون جزءاً من عملية بناء متعثّر لها.