ظل ثابتاً على رأيه رافضاً تلاوة القرآن الكريم بصوته الجميل في الإذاعة المصرية القديمة حتى اقترب من الخمسين من عمره، وهو يعتقد «أن تلاوة القرآن بالإذاعة إهانة لكلام الله» كما يقول الصحافي شكري القاضي في كتابه «عباقرة التلاوة في القرن العشرين» عن فضيلة الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي «1890 – 1962» صاحب الصوت الشجي، والتنغيم الساحر والقراءة المتفردة، والشجن المبطن بروعة الأداء الفني المحكم. ذاع صيت الشيخ في ربوع مصر في الربع الأول من القرن الماضي، وتسابق عليه عليه القوم ليحيي لهم المآتم وسهرات شهر رمضان المبارك في كل عام. طارده مسؤولو الإذاعة من أجل تسجيل قراءاته، وهو يرفض... إلى أن جاءت وفاة الملك فؤاد عام 1936، فَدُعِيَ من الشيخ «الملائكي» محمد رفعت «1882 – 1950» لإحياء مأتمه بقصر عابدين فانتهزها فرصة الإعلامي سعيد لطفي –مدير الإذاعة المصرية– للحصول على موافقة الشيخ الشعشاعي للتلاوة بالإذاعة، وقد حمل معه فتوى شرعية من الإمام الأكبر محمد مصطفى المراغي «مفادها أن قراءة القرآن الكريم بالإذاعة ليست محرمة، ولا مكروهة»! فاطمأن قلب الشيخ الشعشاعي، وبدأ على الفور التسجيل للإذاعة بصوته الخلاب، حتى بلغت تسجيلاته ثلاثمئة تسجيل، كلها قراءات نادرة، وفق وصف الأستاذ شكري القاضي. قال عنه الصحافي كمال النجمي: «إن الشيخ الشعشاعي قارئٌ أسطورة، يحرك جميع الجوارح، بخاصة عندما كان يتسلطن في شبابه!» ووصفه الكاتب الصحافي محمود السعدني بقوله: «إن الشيخ الشعشاعي ظل محتفظاً بقوة صوته حتى سنواته الأخيرة»، وقال العلامة الشيخ الشعراوي: «كان أعجوبة في الأداء، وقوة طبقات الصوت، والإجادة التامة للقراءات القرآنية، مع جمال الموسيقى والخشوع في التلاوة». ويحكي عنه الصيدلي فتحي المراغي –القبطي– فيقول: «كان عمنا الشيخ الشعشاعي جاراً لنا في حي «شبرا» بالقاهرة، فكان نِعْمَ الوالد لنا، في أخلاقه الفاضلة، وحرصه على خدمة جيرانه إلى أبعد حد. وعندما مات ظلت أمي تبكيه بحرارة وهي تصيح: لقد مات والدي اليوم»! عاش الشيخ الشعشاعي في كنف والده، الذي كان قارئاً للقرآن الكريم، وعلى يديه حفظ الابن كتاب الله كاملاً وهو طفل صغير، ثم ذهب إلى مدينة «طنطا» ليتلقى علوم تجويد القرآن وقراءاته على يد الشيخ إسماعيل الشافعي، وارتحل إلى القاهرة، ودخل الأزهر الشريف، فدرس القراءات السبع على يد الشيخين محمد بيومي ومحمد سبيع، وهما من أشهر معلمي القراءات القرآنية في زمانهما، كما يذكر شكري القاضي، كما حصل على شهادة مدرسة المعلمين العليا، التي تُسمَّى شهادة «عريف وفقيه» فاشتغل بالتدريس في المدرسة التي أسسها والده في قريته «شعشاع» بمحافظة المنوفية، ثم بدأ نجمه يظهر كقارئ لكتاب الله، حتى بلغت شهرته القاهرة، فكان أحد فرسان مدرسة القراءة القرآنية المصرية الرائدة، وهم: الشيخ أحمد ندا، والشيخ محمد رفعت، والشيخ علي محمود، والشيخ محمد الصيفي وغيرهم من الشموس اللامعة كالشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ عبدالباسط عبدالصمد، والشيخ محمد صديق المنشاوي! تعددت رحلاته وسفراته إلى البلاد العربية والإسلامية، حيث طلبه الملوك والرؤساء ليقرأ لهم وحدث أن دُعي إلى زيارة العراق في عام 1955 فقرأ بمسجد الأحمدية ببغداد فتزاحم الناس حول المسجد الجامعة من كل حدب وصوب لجمال صوته وسحر تلاوته وكل واحد منهم يريد مصافحة الشيخ الشعشاعي! واستمر الشيخ في القراءة بمسجد السيدة زينب رضي الله عنها بالقاهرة حتى رحيله عن اثنين وسبعين عاماً، وأطلق عليه البعض لقب «أبو القراء» وذلك لحدبه على صغار المقرئين وبذل النصح والإرشاد لهم، ومدّ يد العون لمن يحتاج المساعدة والمشورة. ومما يذكر للشيخ عبد الفتاح الشعشاعي أنه قرأ القرآن في الحرم النبوي الشريف عام 1948 بالمدينة المنورة بحضور الملك عبد العزيز آل سعود آنذاك. ومن عجائب القدر أن الإذاعة المصرية، التي طاردت الشيخ في شبابه من أجل الانفراد بالتسجيل له، لا تذيع له الآن سوى أربعة تسجيلات فقط، على الرغم من وجود أكثر من ثلاثمائة تسجيل نادر له في أكثر من مناسبة، وبقراءات متعددة وأداء عجيب! ويحكي الأديب الكبير أحمد حسن الزيات كيف أن الشيخ الشعشاعي اجتمع في محفل مع الشيخ الكبير محمد رفعت، فما كان من الشعشاعي إلا أن قدَّم الشيخ رفعت على نفسه، ورفض أن يقرأ في حضرة شيخه الأشهر رفعت.. في صورة من التواضع الجمّ، مع علو قامته وقدره في التلاوة والتجويد والترتيل.