يغزل الروائي الياباني كيئتشيرو هيرانو عالماً عجائبياً لبطل روايته «حكاية قمر» التي صدرت ترجمتها العربية عن دار التنوير. تراوح عوالم هيرانو ما بين التراث الياباني العريق بأساطيره وحكاياته الشعبية وتاريخه الحافل بالمعارك والثورات، وبين اليابان المدنية الحديثة المنفتحة على الحضارة الغربية. ولذلك اختار الروائي تلك الفترة الزمنية لتكون العام الثلاثين من فترة حكم الإمبراطور ميجي، وبالتحديد في العام 1898، تلك الحقبة التي شهدت سعي المجتمع الياباني نحو التحديث، والتي لم يكن اليابانيون قد تخلصوا خلالها من طبيعتهم الشرقية الريفية والجبلية. يحكي هيرانو عبر صوت الراوي العليم قصة الشاب ماساكي إيهارا، الطالب في جامعة طوكيو والشاعر الواعد، الذي يعاني من مرض الوهن العصبي، ذلك المرض يسبب له تشنجات واختلاجات لا إرادية، ماساكي وجد في جولات المشي الطويلة حلاً معقولاً لمرضه، إذ تساعده الوحدة والتأمل في الطبيعة على تجاوز المصاعب التي يسببها له المرض. فكلما شعر هذا الأخير بالضيق أو الملل أو أعراض المرض، يعمد إلى اقتراض بعض الأموال من أقربائه ليغطي تكاليف سفره، ومن ثم يشرع في التجول عبر البلاد: «كان من عادته السفر في رحلات ترفيهية يخفف بها من كآبة نفسه، وقد ذاق فاعلية وتأثير السفر في أولى رحلاته، لم يكن ماساكي يحدد في الغالب الهدف النهائي للرحلة، فقط يركب القطار، وعندما يمل، يترجّل منه ويتجول لمشاهدة المكان»... وعبر تلك الجولات، قدّم الروائي توطئة لأجواء الرواية، فعمد إلى تتبع خط سير ماساكي وحرص على ذكر أسماء كل القرى والطرق والجسور التي يمر عليها هذا الأخير، مرفقاً بهذا العرض الجغرافي التفصيلي، شذرات تاريخية حول بعض المعابد ومحطات القطار التي مر عبرها ماساكي، كما يقدم شروحاً وافية حول النباتات والأشجار والحشرات والفراشات التي تصادف هذا الأخير في جولاته، بلغة تقريرية محايدة، وبإيقاع هادئ وبطيء نسبياً، ليس بسبب قلة حيلة الكاتب، وإنما تعمد هيرانو الإيقاع على هذا النحو لهدف فني سنشير اليه في جزء متأخر من هذه القراءة. إلى حد هذا الجزء من الرواية، تبدو الدراما بطيئة وغير فاعلة، لأن أغلب الأحداث تدور داخل رأس ماساكي، فبخلاف جولاته ومشاهداته والتقائه بفتاة جميلة مثلاً، وبراهب مثير للريبة، أو اندهاشه بمنظر الفراشة ذات الأجنحة الذهبية، لا نجد سوى تلك الأفكار والتساؤلات الوجودية التي تطوف في مخيلة الشاعر الشاب، وكذلك بعض الذكريات. يظل الوضع كذلك حتى يبدأ ماساكي في رؤية حلم واحد لا يتكرر، يشاهد فيه فتاة شديدة الجمال وهي تستحم في طشت ماء، لا يرى ماساكي سوى ظهرها، يتكرر الحلم بترتيب الأحداث نفسه، لا يختلف من نسخة لأخرى سوى درجة وضوح الصورة وبعض التفاصيل الهامشية غير المهمة. ثم يحدث أن يضل مساكي طريقه وسط غابة جبلية أثناء إحدى جولاته، ويتعرض للدغة أفعى في قدمه، ومن ثم يفقد الوعي، وعندما يفيق يجد نفسه في غرفة راهب بوذي، يطببه الراهب وينظف جرحه ويساعده في تجاوز الحمى بالكمادات. يحكي له الراهب كيف وجده في الغابة وحمله إلى هنا، ويسمح لماساكي بالبقاء في جبل (أوسن داكه) المدة التي يريدها مشترطاً عليه ألا يقترب من الكوخ الموجود أمام قاعة صلاة الزِن القريبة لأن فيها سيدة مصابة بالجذام وترفض أن يراها الناس. يحترم ماساكي رغبة الراهب ومن ثم يباشر فترة نقاهة في ذلك المكان الموجود في قلب الجبل. في الجبل تبدأ الأحلام في زيارة رأس ماساكي المحموم بكثافة، وتصاحبها هلاوس وتهويمات، يرى في كل ليلة فتاة الحلم في المشهد نفسه، عدا عن ذلك، وفي اللحظات التي كان يستعيد فيها ماساكي عافيته ويتحسن، بدأ يقوم بجولات حول الغرفة التي منحها إياها الراهب، يتأمل الطبيعة ويستمع الى أصواتها، إلا أنه سيبدأ في ملاحظة الأمور العجيبة التي تحدث، فأولاً جرحه الغائر يلتئم في وقت قياسي، والنباتات المحيطة تنمو بسرعة مخيفة، حتى أن الينبوع الصغير الذي لا يتجاوز قطره أشباراً عدة، يحدث صوتاً يضاهي صوت نهرٍ هادر «يخرج ماساكي كل يوم تقريباً إلى الحديقة، ويرى بأم عينيه تفاصيل التغيرات المتسارعة فيها، وكان ذلك في منتهى الغرابة. يدخل الفراش، وعندما يفتح عينيه في صباح اليوم التالي يجد الزهور قد نمت وكبرت، وفروع الأشجار امتدت وطالت والأوراق ازدادت اخضراراً، وبدءاً من هنا سترتفع وتيرة الأوهام، وتختلط بالواقع والأحلام والذكريات، سيشعر القارئ نفسه أنه هو الشخص المصاب بالحمى، إضافة الى ذلك سيحدث سيلان سريع في الزمن، وترتفع وتيرة في الأحداث، لا سيما عندما يكتشف ماساكي أن الكوخ الذي حذره الراهب من الاقتراب منه لا يوجد فيه سوى تلك الفتاة التي عششت في أحلامه طويلاً، حتى أن المشهد الأول الذي يرى فيه ماساكي فتاة الكوخ، واسمها تاكاكو، يحدث كما لو كان حلماً، يراها وهي تستحم في الطشت مثل الحلم تماماً. يلجأ كيئتشيرو هيرانو الى كل الطرق الممكنة لإقناع القارئ بإمكانية تباطؤ الزمن أو تسارعه، من طريق تسريع إيقاع الأحداث بشكل فني مثلاً، ليصدّر انطباعاً للمتلقي بتلك النسبية، فيلعب على التباين بين الزمنين السيكولوجي الداخلي النسبي، والكرونولوجي الطبيعي المطلق، كما يستعين بالأساطير اليابانية ويغزلها في نسيج الرواية، فيعرض أسطورة «أوراشيما» التي تحكي قصة رجل أنقذ سلحفاة صغيرة من بعض الصبية العابثين، ليتضح لاحقاً أن تلك السلحفاة هي بنت ملك البحر، تستدعي السلحفاة الرجل لتكرمه في قصر والدها في البحر، يذهب الرجل ويقضي هناك اياماً هي الأجمل في عمره كله، وعندما يعود الى أهله يكتشف انقضاء 300 سنة منذ ذهابه الى البحر. كما يملأ هيرانو فجوات الحكي بتكنيكات سردية، مثل الإطناب في الوصف البصري، أو الخوض في التاريخ، وحتى طرح تفسيرات أو احتمالات أو نتائج مترتبة على حدث ما كمراوغة لغوية ذهنية بسيطة تستهلك بعض الوقت وتساهم في التحكم في إيقاع السرد... ترفض تاكاكو مقابلة ماساكي، ويطرده الراهب خارج الجبل، يشعر ماساكي بالحزن وتعاوده الهلاوس والحمى، فيلجأ إلى نُزُل بسيط قريب من الجبل، وهناك تحكي له مالكة النزل القصة الحقيقية لفتاة الجبل، القصة تبدأ قبل 25 سنة عندما اختفت فتاة جميلة من قريتهم، وعادت بعد أيام وهي في حالة نفسية متردية، وزعمت أن ثعباناً ضخماً اغتصبها، وعندما أنجبت تلك القروية بنتاً، أجمع الرهبان على أن لها عيوناً سامة، لينبذها أهلها، مقررين تعصيب عينيها بجلد خنزير، ومن ثم تركوها لراهب أراد أن يربيها، حملها إلى قلب الجبل وأنشأ كوخاً وغرفة صلاة. اكتشف ماساكي إذاً أن الفتاة التي رآها في أحلامه ثم رآها في الكوخ الجبلي ليست سوى بنت تلك القروية التي اغتصبها الثعبان، وعرف أيضاً أن أحلامه لم تكن سوى استدعاء من تلك الفتاة، وبناءً عليه قرر أن يمضي في درب هذا الحب العجائبي الى آخره، وقرر أن يرى عيني حبيبته، ومجدداً تختلط هنا الأحلام بهلاوس الحمى وضلالات ماساكي المريض والعاشق. وينتهي اللقاء المروع بين الحبيبين اللذين لا يعرفان بعضهما بعضاً من الأساس بموت الفتاة الجميلة ذات العيون القاتلة، وتحول ماساكي إلى فراشة ذات أجنحة ذهبية مثل تلك التي رآها في بداية رحلته الترفيهية، والتي لم تكن صدفة كما زعم الراوي، وإنما كانت بمثابة إشارة أو دعوة من حسناء الكوخ لحبيبها المرتقب. التشظي الذي بدا عليه البطل، يتماهى مع الأجواء الكابوسية ومع تقنية الحلم الذي اعتمده الروائي، ووجود الراوي العليم المحايد شكّل خطاً فاصلاً بين العالم الخارجي لماساكي، وبين صوته الداخلي الذي كان يتخلل السرد، بجمل مونولوجية جاءت قصيرة في أغلبها، وضعها الروائي بين هلالين ليميزها عن صوت الراوي العليم، شكلت تلك الجمل إشارات إرشادية تومض بين الحين والآخر، تقود القارئ لمتابعة دخيلة ماساكي الذي انعجن تماماً في عالم التهويمات والضلالات وتوحد معها ولم يعد من السهل الفصل بينهما، وهو الأمر ذاته الذي سيحدث مع القارئ، بفضل تمكن الروائي الشاب هيئتشيرو هيرانو من أدواته، وقدرته على إدارة الحدث بالتقنيات المناسبة.