من الغريب أن يصبح الحديث عن مصير ثورتي مصر وتونس أكثر تداولاً في الإعلام المحلّي والعالمي من الحديث عن مصير ليبيا واليمن بعد الثورة، بعد أن قدّمت مصر وتونس على أنهما نموذج الثورة الناجحة، وصنّفت ليبيا واليمن في خانة الثورة العنيفة، واستنجد المحلّلون بنظرية عراقة ظاهرة الدولة لتأكيد عناصر الاطمئنان على أحفاد الفراعنة والقرطاجيين. فما الذي جعل الوضع يتغيّر اليوم؟ لا يكفي قدم ظاهرة الدولة في مجتمع معيّن لحمايته من الفوضى إذا سلطت عليه ضغوط داخلية أو خارجية قوية (أو النوعان في الوقت عينه)، ففي آخر المطاف، يظل تصرّف الأطراف السياسية هو المحدّد. وعلى هذا الأساس، فإن التخوف من الوضعين المصري والتونسي لئن كان جديراً بألا يبالَغ فيه مبالغة مفرطة، فإنه يرتكز أيضاً إلى عامل موضوعي، وهو الشكّ في جديّة «الإخوان» في الوفاء بتعهداتهم وتأسيس الدولة المدنية الديموقراطية، بدل النكوص إلى طروحاتهم المؤسسة التي ما زالت متداولة في كتبهم ومواعظهم. لا يبدو جلياً أنهم طلقوا طلاقاً بائناً فكرة اعتبار الديموقراطية في أحسن الحالات مجرّد وسيلة لبلوغ السلطة، وليست فلسفة في تسيير الشأن السياسي، وفكرة تحويل السيادة من الشعب إلى نخبة من المخلوقين يزعمون أنهم مؤهلون للحديث باسم الخالق، ونسمع منهم خلطاً فظيعاً بين الغالبية بالمعنى السياسي وهي قابلة للتغيير مع كل انتخابات، والغالبية العرقية أو الدينية التي لا يصحّ أن تترجم في انتصارات سياسية، بل من المتأكد تمثيلها تمثيلاً يناسب حجمها باعتبارها مكوّناً من مكوّنات الوطن، وكذلك يغيب التمييز بين الانتخابات وبين البيعة، باعتبار الأولى تفويضاً محدوداً في الزمان والمكان والوظائف، والثانية تفويضاً مطلقاً يسمح لمن أصبح قائماً مقام «الخليفة» بأن يتصرف كما يريد. إن المتابع لأشغال الجمعية التأسيسية المصرية وهي تصادق بالإجماع على كل فصول الدستور، بعد أن انسحب منها المعارضون، وموقف رئيسها الذي اعتبر هذا الانسحاب تغيّباً غير مبرّر يُسقط عضوية أصحابه (مثل التلاميذ المشاغبين في المدارس!)، والبلطجية الذين يحاصرون المحكمة ويهدّدون القضاة بالقتل، لا يمكن إلا أن يشعر بالخوف على مستقبل مصر، ومن ورائها الأمة العربية، باعتبار الدور المحوري لمصر وتأثيرها في كل المنطقة. إنه منطق بعيد جدّاً من المبادئ التي قامت عليها الثورات العربية. لنفترض أن الرئيس مرسي أراد أن يمنع إطالة عمل التأسيسية ومطّ عملية كتابة الدستور، وأنه أراد أن يثأر من قتلة الشهداء ومفسدي العهد البائد، وهذه كلها نوايا نبيلة لا شك، بيد أن السؤال هو التالي: هل يمكن تحقيق الديموقراطية بقرارات استبدادية؟ أليس استبداداً بالمصريين أن يخيّروا بين أمرين، القبول بدستور الإخوان أو القبول بالصلاحيات المطلقة لرئيس الحزب الإخواني، إذا صوّتوا بنعم في الاستفتاء وقعوا في الأولى وإذا صوّتوا بلا وقعوا في الثانية؟ وإذا حصل الاستفتاء في الموعد المقرّر، فإنه سيؤدي على الأرجح إلى تصويت غالبية من المصريين عليه، بيد أن الدافع إلى التصويت لن يكون الاقتناع بمضمون الدستور وفهم أبعاده وخلفياته، ولا ربما مجرّد الاطلاع السريع على مواده، الدافع سيكون أساساً حالة اليأس والإرهاق التي أصابت المواطنين وأجهضت أحلامهم وجعلتهم يقبلون أيَّ حلّ يعيد لهم بعض الأمن ويطمئنهم على رغيف الخبز وأمان الأطفال. لا شيء أنكى على الثورة من أن يصبح كل طموحها استعادة حقوق وأوضاع كانت موجودة قبلها! أما في تونس، فإن الوضع يبدو عكسياً، لكنه عكسي في الظاهر فقط. هناك، تسير الأمور في اتجاه إطالة الفترة التأسيسية ومطّ مدة كتابة الدستور. لقد كان الأجل المحدّد سنة تنتهي في 23 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، فحلّ الأجل ولم يظهر الدستور، وقيل آنذاك إنه ينبغي احتساب سنة من يوم انعقاد المجلس لا من يوم انتخابه، فجاءت ذكرى مرور سنة من الانعقاد، في 22 تشرين الثاني (نوفمبر)، ولم يظهر الدستور أيضاً، ويبدو أنه لن يظهر من قريب، بعد أن أُغرِق المجلس التأسيسي بمشاريع قانونية كثيرة لا محلّ لها من الإعراب، مثل قانون تصريح كبار الموظفين بأملاكهم (ألا يمكن انتظار المجلس القادم؟ ولماذا لم يف المسؤولون الحاليون الذين لن يطبق عليهم هذا القانون بالوعود المعنوية الذين قطعوها سابقا بالتصريح بممتلكاتهم؟) وقانون العزل السياسي (أليس الأَوْلى أن تسنّه الهيئة المستقلة المشرفة على العدالة الانتقالية بدل أن يسنّه مجلس متكوّن من أحزاب هي طرف وحكم في آن؟) عدا قانون الموازنة المالية وقوانين الهيئات العليا للإشراف على الانتخابات والإشراف على الإعلام السمعي البصري والإشراف على القضاء العدلي، والقانون الانتخابي، وما قد تجود به قريحة النواب مستقبلاً من مقترحات قوانين! إن مدة سنة أخرى قد لا تكون كافية وحدها لسنّ كل هذه القوانين ومناقشة نص الدستور في الآن ذاته. والنتيجة لن تختلف هيكلياً عن الحالة المصرية، لأنها ستؤدي بالضرورة إلى يأس المواطنين وإنهاكهم بقضايا الأمن والحياة اليومية والتلوّث والمشاكل الصحية، وتزهدهم في «ديموقراطية» أصبحت محلّ سخرية لأنها أشبه بصراعات الديكة، ما يجعلهم بعد سنة أخرى من الآن قابلين بأيّ دستور يطرح عليهم، وبأي حكم يحكمون به. هكذا يمكن أن تفرّغ الثورات من مضامينها ويعاقب الشعب الثائر ويدفع مجدّداً إلى ثقافة الاستكانة والتسليم، وتهيّأ الظروف لنشأة دكتاتورية جديدة تتولّى استعادة دور «الأب» المفقود. حذار، إنها فرصة نادرة قد لا نرى مثلها لعقود قادمة إذا فرطنا بها الآن، وإن مقياس نجاح الثورات العربية ليس تحقيق الأمن وتوفير الخبز وازدياد عدد الوعاظ والمشائخ، فهذه كلها مكاسب كانت متوافرة. عنوان نجاح الثورات العربية كلمة واحدة: الديموقراطية. ووسيلة ذلك القطع مع ثقافة الاستبداد وآلياته وليس فقط القطع مع وجوهه في العهد البائد.