تمر الساحة السعودية بسخونة حادة بين التيارات الفكرية. وكأن كل يتربص بخصمه، و يكيل له التهم، كالإقصاء والانغلاق والأدلجة، إذ أسهمت شبكات التواصل الاجتماعي في اصطفاف كل تيار، وتصيد كل فريق على الآخر. «الحياة» سألت بعض الإعلاميين والدعاة عن ثقافة «الإقصاء» ومفهومه ومدى وجوده في الحراك الفكري الحالي. وأوضح رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط» طارق الحميد أن الإقصاء - في حد ذاته - أمر مرفوض، وخاطئ من أي تيار كان، إذ برأيه أن الإقصاء لا يعزز ثقافة التسامح، والتعايش، ولا يساعد كذلك على بناء مجتمعات فاعلة، معتبراً أن «هذه هي إشكالية منطقتنا عموماً». واستشهد في حديثه مع «الحياة» بما يحدث بدول الربيع العربي، قائلاً: «من أقصي ذات يوم وبات في السلطة، هو الآن يقوم بتكرار أخطاء الماضي نفسها، وهي الإقصاء، وهذا الأمر يتضح أيضاً بالعراق». وحول الجدال الدائر بين التيارات الفكرية قال: «الإشكالية ليست بالإقصاء فحسب، بل وفي الاغتيال المعنوي، وتشويه الحقائق، ولو نظرت للسعودية، مثلاً، ستجد أن هناك إفراطا في استخدام المصطلحات، وبشكل مزيف، فقط من أجل النيل من الأطراف الأخرى التي تختلف معهم فكرياً، أو أيديولوجياً». ولفت إلى أن «هذه لعبة ابتدعها الإسلاميون بشكل كبير، للقول بأن كل من يختلف معهم هو علماني، وبالتالي فهو غير مسلم، في تبسيط فج، أما عربياً فيكفي متابعة ما يحدث في مصر الآن فالسلطة، (الإخوان)، هم الإقصائيون، وهم من يطعنون بالآخر، وهم من يريدون الاستئثار بالدولة». وأرجع ذلك إلى قلة الوعي الشعبي بأهمية مفهوم الدولة، وإلى أن قادة الرأي العام المتصدرين للمشهد الفكري اليوم، قرروا وسط ضجة «الربيع العربي» أن يتحولوا إلى صفوف الجماهير، إذ أصبح كثير منهم مع وضد، من دون مراعات للحقائق، والتاريخ، وأصول السياسة. وعلى الطرف الآخر، رأى أستاذ الإعلام السياسي في جامعة الملك سعود في الرياض أحمد بن راشد بن سعيد أن الإقصاء الواقع ما بين العلمانيين والإسلاميين العروبيين -كما يسميهم-، ليس وليد اللحظة، بل هو ممتد منذ عقود، وأشار إلى أن الخلاف الحالي زادت حدته واشتعل وقوده، بعد العدوان على غزة والثورة المضادة ضد حاكم دولة مصر العربية الرئيس محمد مرسي، إذ يحاولوا أن يتذرعوا بالقضاء ويجدوا مبررات لهم وهم لا يريدون للإسلاميين أن يقدموا برنامجهم ولا مقترحاتهم ولا حكماً حقيقياً. وأضاف: «العلمانيون يتخوفون من الإسلاميين الجدد، والسلفيون الذين أتى بهم «الربيع العربي» إلى مواقع متقدمة ويقدمون نموذجاً يحتذى به ويمدون جسور التواصل ويقدمون تنازلات، ولكن الطرف الآخر لا يريد أن ينسحب البساط من تحته، ويضيف أن هاتين القضيتين ميزتا الموقف من الطرفين، الإسلاميين العلمانيين، على السواء»، وأشار إلى أن تلك القضايا الواقعة بين الطرفين في البلاد العربية، ألقت ظلالها على العرب والخليج، وتكمن المشكلة الحقيقية في عدم اعتراف النخب العلمانية بالديموقراطية الإسلامية، معتبراً أن القضايا والحلول الوسط أصبحت مجرد كلام. ولفت إلى أن العلمانيين يقومون بإقصاء الإسلاميين ويتهمونهم دائماً بإرجاع البلاد إلى الخلف للعيش، كما في العصور الوسطى أو عصور الخلافة، إضافة إلى إقصاء الإسلاميين من قبلهم وإهانتهم وإذلالهم، على رغم أن الإسلاميين من الكينونة الاجتماعية، وهذه دلالة عقول عقيمة تعوق الديموقراطية، وشبه النخب العلمانية بالفاشية فهم يتشدقون بالديموقراطية، وهم بعيدون عنها، مقترحاً أن يخطو كل طرف إلى الطرف الآخر لإيجاد قواسم مشتركة حتى يتقلص الخلاف بين التيارين. وأكد الداعية الإسلامي عضو هيئة التدريس في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة الملك عبدالعزيز علي بادحدح أن على جميع الأطراف (إسلاميين وعلمانيين) الالتزام بأدب القول، وحسن العمل، «فأدب القول لدينا في الإسلام يندرج تحت أدب الاختلاف، وهو أمر كوني» موضحاً أن الاختلاف يبني لنا آلية أدبية أخلاقية في العلاقة، إذ أول شيء في الإسلام هو التحلي بالآداب لقوله تعالى: «ادفع بالتي هي أحسن» ولقوله عز وجل: «وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها»، وفي حين كان التعامل تجاهنا سيئاً في التعامل فينبغي لنا اتباع الآية الكريمة التي تقول «وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً»، إضافة إلى حسن العمل وابتغاء وجه الله في ذلك. ولخص بادحدح الاختلاف القائم بين الإسلاميين والعلمانيين في جانبين هما: الجانب الفكري إذ يصر كل شخص على رأيه باعتبار أن الحق معه (هذه تعد إشكالية فكرية)، والجانب الآخر هو التعبير اللفظي، إذ لا بد من أن يكون هناك أدب واحترام وتقدير بين المختلفين في وجهة النظر. وأضاف: «علينا أن ندرك أن هناك اجتهاداً وخطأً وصواباً، كل يقع فيه»، وأشار إلى أن تجاوز أسلوب الاستفزاز والحدة يسهم في مجال التفاهم، مؤكداً أهمية تقويم بعضنا بعضاً. ولفت بادحدح إلى أن السبب الرئيس والنقطة الجوهرية في الاختلاف بين الإسلاميين والعلمانيين، هو أن هناك علمانيين يفترون على الدين الإسلامي وعلى القرآن الكريم والسنة النبوية وعلى التشريعات الإسلامية مثل الحجاب والتعدد وغيرها من الأمور، ونرى ذلك واضحاً في مقالات بعض الكتاب في الصحف وما يثار في بعض القنوات الفضائية. وعند حدوث تجاوز قال بادحدح : «لا مجال عند التجاوز إلا قول كلمة الحق بشكل واضح والنهي عن المنكر، من دون تجاوز للأدب، إذ تتحول إلى قضية شرعية تتعلق بالدين وتفصل فيها المحاكم، فهي ليست قضية شخصية تتعلق بالإسلاميين، بل بالدين كله، وينبغي أن يقف كل متجاوز عند حده، ويضيف أنه لا توجد محاسبة للمتطاولين على الدين». وذكر بادحدح أن الإعلام أخذ مساحة كبيرة من الحرية، بل تجاوزها وأصبح من مهامه إثارة المجتمع وتقسيمه وعدم مراعاة طبائع المجتمع وعاداته، ومن ثم أصبح الانفتاح أكثر سوءاً. مشيراً إلى أن الدعاء على العلمانيين في منابر المساجد جائز إذا كانت العلمانية الخروج على الدين بزعم الحرية، إذ الحرية برأي بادحدح تؤخذ من الإسلام، كما أن العلمانيين أنفسهم يتهربون من هذه المصطلحات وإذا تحقق خروجهم على الدين، فالدعاء عليهم جائز. وأوضح الكاتب الصحافي يحيى الأمير أن الإقصاء عيب موجود في الثقافة، ولا يختص بتيار من دون آخر، إذ هو موجود عند الجميع ونحن نحترق جميعاً منه، ولم نستطع التخلص منه، وأشار إلى أن الإقصاء موجود كذلك في التراث، وهو مرتبط أيضاً بالوعي الثقافي ومدى تقبله عند الآخرين، معتبراً أن التطاول الواقع الآن بين أفراد من الإسلاميين أو العلمانيين واستخدام السب والشتام، هو سلوك فردي لا يمكن أن يحسب على التيار بأكمله. وأشار إلى أنه لا يوجد مكان أو منبر أو وسيلة مملوكة لفريق من دون الآخر، فالمنابر ووسائل الإعلام مفتوحة للجميع، وأكد أننا نحتاج إلى التخلص من هذه المشاحنات من جميع التيارات، وطالب بتدريب ثقافي واسع وإحلال العقول مكان الإقصاء والتخلص من محفزات الإقصاء، مفيداً بأن عيوب الثقافة لا تحتاج إلى قرارات لحلها، بل تحتاج إلى مشاريع ثقافية مرتبطة بالزمن وثقافة البلد ومحاولة الوصول إلى رأي واحد.