في فندق أثري من فنادق أحياء دمشق القديمة اجتمع الألم والحزن. فندق كان حكراً على السياح الأجانب وتحوّل ملاذاً من العنف لبعض العائلات النازحة من مناطق الوجع السورية... هنا عائلة من حمص وأخرى من ريف دمشق وثالثة من حلب يفترش أفرادها مساء أرض الديار في الفندق. رجال ونساء يتسامرون ويتناوبون على سرد قصص المآسي التي لا تنتهي لعلّ في ذلك ما يخفف ألمهم عنهم، بينما يقطع حديثهم هدير الطائرات التي تحلق فوق رؤوسهم وأصوات انفجارات يتسابقون في توقّع موقعها. إبريق شاي يتشاركه الجميع، ونراجيل لا تنطفئ. يبدو الفندق حميمياً وكأنه بيت شعبي مشترك. «والله بيتنا في حمص مساحته 200 متر، وهنا أبحث منذ شهر عن غرفة صغيرة للإيجار أسكنها مع أولادي، من دون جدوى»، تروي سيدة في الخمسين من عمرها بحنق لجارتها التي تحتل الغرفة المجاورة، فتجيبها الأخيرة وهي تبدل وضعية جلوس ابنها في حضنها: «بعت آخر قطعة ذهبية أملكها. كانت هدية عرسي. أعطيت ثمنها لزوجي بعد أن صرفنا كل ما لدينا. لن نستطيع البقاء في الفندق طويلاً، ولم نجد بيتاً، الإيجارات مستعرة وأغلى من الفندق». وتضيف: «وكأن الناس أرادت أن يتاجر بضعها ببعض. إذا بقيت الحال هكذا فسأعود إلى مدينتي ولو تحت القصف وأموت في بيتي بكرامة»، وتعلق امرأة جلست بعيدة: «لم تكن الغاية أن ننزح إلى هنا، ولكن حتى منزلنا الصغير في درعا دُمِّر بالكامل». فروق طبقية ونفوس ضعيفة أمهات وأولاد وآباء اجتمعوا في بيوت دمشق وحدائقها وفنادقها، بعد أن سلبهم العنف والقصف بيوتهم وأرواح من يحبون. القسم الأكبر كان من نصيب الفنادق الشعبية تلتها فنادق الشام القديمة الأثرية الأغلى سعراً ولكنها باعتقاد الكثيرين هي الأكثر أمناً. وبينما يجد البعض أن المستويات الطبقية تكرّست وظهرت تماماً في وقت النزوح إذ استطاع الميسورون أن يجدوا ملاذاً دافئاً باستئجار شقة مفروشة أو غرفة في فندق لا بأس به وبقيت للفقراء المدارس المكتظة أو الساحات والحدائق ولو في البرد وتحت المطر. ومع ذلك أثبت المجتمع السوري عموماً تكافلاً مميزاً، واستضافت الكثير من العائلات الدمشقية عائلات نازحة أو مهجرة، قريبة كانت أو غريبة، حتى أن النازحين الأقدم استضافوا نازحين جدداً وتقاسموا السكن واللقمة معهم. تناقضات يعيشها اليوم المجتمع السوري، فهنا المئات مشرّدون لا يملكون ثمن أجرة منزل يؤويهم وهم يعتبرون أن نزوحهم موقت ولا بد من أنهم سيعودون قريباً إلى بيوتهم، في حين عرفت عائلات كثيرة أخرى أن بيوتها أو أحياءها لم تعد كما كانت صالحة للحياة فباعت كل ما تملك وجاءت لتبدأ حياة جديدة في العاصمة أو غيرها من المدن التي يسودها هدوء نسبي. تناقضات جعلت أصحاب الأموال فقراء بعد أن سلبهم القصف الكثير، واغتنى آخرون من ضعاف النفوس كأصحاب الفنادق وسماسرة الشقق المفروشة وممّن وجدوا في الأزمة فرصة لزيادة أموالهم، فاستغلوا حاجات الناس في الزمن الصعب، مقابل مبالغ قاربت في بعض من الأحيان الخيال. عزّزت الأزمة مهنة السمسار أو الدلّال الذي يوفر للنازحين شققاً أو غرفاً تناسبهم مقابل «رعبون» كبير، وبات يستعين بمساعدين ينشرهم على مداخل الحارات لتلقّف العائلات الميسورة المهاجرة.والمضحك المبكي أنه صار لكل محافظة أو منطقة ساخنة «دلالها»، الذي تلجأ إليه العائلات الهاربة من القصف والعنف بحثاً عن مأوى موقت أو سكن. لا يحتاج الأمر لأكثر من اتصال بذاك الدلّال الذي يعرف كل شيء عن المدينة التي قررت العائلة أن تلجأ إليها، فيضع خبرته في مساعدتها على مقدار الثمن الذي تدفعه، يُعينها على تدبير أمورها من الألف إلى الياء إن دفعت في شكل يرضيه، يدلها على أماكن التسوق الأفضل والأرخص، ويشرح لها عن طبيعة الحي الذي تقطنه وكيفية تأمين حاجاتها وحاجات أبنائها أيضاً، وتتزايد الخدمات طرداً مع تزايد المال. يقول مصطفى: «أساعد العائلات الحمصية النازحة في تدبير أمورها هنا في دمشق، كوني خبيراً في كل شبر من العاصمة، وأؤمن لهم المواصلات التي ستقلهم»، ويستطرد ببرود: «هذا العمل يتطلب وقتاً وجهداً وأنا أبذلهما بتفانٍ ولا عيب في أن آخذ لقاء ذلك بعض المال والهدايا». وفي حين يجد مصطفى أن ما يأخذه حق له، يساعد كثير من المتطوعين الشباب العائلات النازحة من دون أي مقابل ويقدمون لها العون في كل شيء من إيجاد مأوى إلى تعريفها إلى الجمعيات الخيرية التي تبذل كل إمكاناتها في محاولة لسدّ بعض الحاجات الضرورية للعيش. «تحولّنا إلى متسوّلين» يعلّق رجل ستيني، نزح من ريف حماة إلى العاصمة، ويضيف بغصّة وحرقة: «خسرت بيتي وأرضي وكل شيء. كنت أستضيف الناس وأساعد كل محتاج، وها أنا أقف في الصف. أنتظر دوري لأستلم بعض الرز والسكر والزيت من الجمعية الخيرية هنا». ويشيح بنظره بعيداً ليُخفي دموعاً أخذت طريقها إلى مقلتيه!